بوصولي للحلقة الأخيرة في ثلاثية مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، والتي أكتبها بين رثاء وبعث، تزامن مشهدان والتقيا حيث شكلا الخط الأصيل في السياسة الثقافية المصرية، والمسرحية بخاصة، على ما بينهما من اختلاف وتباعد ظاهر . قفز أولا إلى قلب السطور اسم المخرج المسرحي منصور محمد. أتذكرونه ؟ أتعرفونه ! ذلك الشاب الذي وصل إلى افتتاح الدورة الثالثة للمهرجان عام 1991، محفوفا بتهليل وتصفيق نقدي وشعبي غير مسبوق، وتصعيد رسمي، ثم كان الضحية الأولى ل"سلطة" المهرجان والوزارة . ولمن لم يعاصره – وهم كُثر – فقد أثار مشهد حركي واحد في عرض (اللعبة) ضيقا لقلة مؤثّرة، يتحول فيه الطواف حول مربع بما له من إيحاء روحي إلى ما يشبه الزار والرقص الهستيري حول برميل نفط، أو إله المال بكل وثنيته. كان مجرد شبهة المساس بالمقدس، حتى لو كان يدين إفراغ التعبد من معناه، وطغيان المال والجاه على جوهر الايمان في انتقال جمالي بارع مدعاة للانصياع للإرهاب الفكري، والضغط السياسي . صدّق منصور وقفز إلى حلبة التجريب وتعدد التأويل ورحابته، فمات. مات باكرا وسريعا بعد القفزة ... أقل كثيرا من عام! هذه النقط تذكره بلحظة آثمة مارسنا فيها رذيلة الصمت. ولم يصدر تصريح رسمي واحد – فيما أذكر – عن علاقة التجريب -مثلا- بحرية الإبداع، أو التباهي بأنه لا رقابة على المبدع المصري، وذلك رغم أن تصعيد العرض كان بمباركة أعلى مسئولي الثقافة في الدولة . وإذا كان المشهد أو الحدث الأول استدعته الذاكرة بقوة لا إرادية من الماضي، فإن الثاني حضرته واقعا معاصرا هذا الشهر، حيث استدعيت لحضور مؤتمر صحفي عاجل بمسرح ميامي، مقر المسرح القومي " المؤقت ". كان عرض (ميراث الريح) للمخرج طارق الدويري مهدَداً بالتأجيل والتشتيت والازاحة من مسرح ميامي لإحلال آخر. وبلا أي قدر من مراعاة الجهد المبذول في التدريبات، وبتعدٍ ملحوظ على مسئولية مدير المسرح القومي عن برنامجه، وترتيب العروض . طارق الدويري، وغيره كثير، من أكثر الفنانين تأثراً بمهرجان القاهرة. نشأوا عليه ومازالوا مطاردين، مستنزفين، مباعد بينهم وبين الجمهور، محاصرين في أيام معدودة، وفرص وميزانيات محدودة، وأماكن منسية، وتجاهل إعلامي على مدى عقود. تطور سلطة الدولة من أساليبها "الناعمة" في إقصاء الموهبة واستنزاف قدرتها. لا يهم إن كان المأرب تحجيما سياسيا أو مزاجا استهلاكيا من ميراث القطاع الخاص المندثر ومن أكثر رموزه فشلا، والذي يعيد إنتاج مصالحه بأموال مسرح الدولة، وبطريقة آمنة . هل يبدو حديثي مؤرخا بتاريخ مصري ما بعد ثورة أو ثورتين، أو على الأقل والنية المعلنة منعقدة على التغيير و" الحق في الثقافة " ! ألوك مذاقا قديما عطنا. ونضيف بأن نظلم أفق الإبداع الذي أضاءه المهرجان ومدى التحدي في إذكاء روح الابتكار المتجدد. نسد باب الريح بالإغلاق لا بالتصدي لزلاته التي تراكمت بترهل السنين بحيث نسمح بهبوب فن مسرحي جميل ومعاصر. ما يصل المشهدان والعقود المتوالية هو حرمان مصر من مواهبها وأكثرها حبا للوطن، وهذا في ظني عامل جوهري في الخروج الثوري الجماهيري العظيم الذي شهده الوطن.وتخايلني الملابس المندية تهتز على أنغام صوت أم كلثوم. هل كانت انت عمري ؟ أم أمل حياتي ؟ كان ( اللعبة) عرضا معجوناً بمصر ومقهوراً بها وفي عز الشوق إليها، وما زال !