توقف القلب بعد أن ظل لأكثر من سبعة عقود متسعاَ للجميع بالمحبة والصداقة والأبوة .. توقف بعد أن أرهقته مسيرة عطاء طويله … لم يهدأ خلالها العقل عن التفكير طرق عوالم جديدة في الحياة والإبداع واثاره الجدل وطرح الأسئلة والجرأة في الدفاع عن رؤاه ووجهات نظره ليمثل" سيد إمام " حالة ملهمة للعديد من الأجيال و كنت أنا وجيلي أحد الذين مسهم سحره ودفء أشعته شمسته التي أضاءت دروبنا … هذا السحر الذى ساهم في تكوين الوعى وفتح دروبا وعوالم من الجدل والدهشة و الوعى الحقيقي. في ليله في بدايات التسعينيات " كان قصر ثقافه "كفر الشيخ" على موعد مع احتفاله السنوي بذكرى الشاعر "على قنديل" وكنت في بدايات الشباب وقد مسنى شيطان الشعر وجذبتني غواية القصيدة وجنوح الشعراء . في تلك الليلة كان "على قنديل " يطل بروحه مرحبا بضيوفه وكانوا كثر من بينهم " الشاعر محمد عفيفي مطر – الشاعر محمد محمد الشهاوى – الفنان التشكيلي عبد الوهاب عبد المحسن الشاعر عبد الدايم الشاذلي وفى القلب منهم كان يجلس "سيد إمام " بشعره الأبيض الذى يشبه تماما نقاء روحه وصفاء ابتسامته الدائمة وبجواره صديق عمره الشاعر "صلاح اللقانى" ومعها كان الشاب الصغير "طارق إمام " الذى نتقارب في العمر وكت سعيد الحظ جدا حين جمعنا "مرسم الفنان عبد الوهاب عبد المحسن " بوسط مدينة كفر الشيخ لنستكمل مناقشات كانت قد بدأت بسؤالي ل سيد إمام حول " دور المثقف في تغيير الواقع وتثوير المجتمع " كان السؤال استكمالا لحديثنا عن معركة انتخابات برلمان "1990 " وكيف كان حزب التجمع بدمنهور هو بطلها من خلال مرشحه الشاب حينذاك الدكتور زهدي الشامي وكان "إمام " أحد أبرز وجوه المعركة بقدرته الفائقة على جذب الجماهير من خلال خطاب عفوي وبسيط وشديد العمق . كان "إمام " قادر على أن يصنع -بأقصى سرعه – ثقه وألفه بينه وبين الطرف الآخر وسرعان ما يخلق " دون قصد " حاله إبهار تشبه ما يسمي في السينما "سرقة الكاميرا " نعم لقد كان سيد إمام قادرا على خطف الكاميرا بسرعه فائقه ولم تكن في حاجه إلى وقت طويل لتتأكد أنك أمام عقل يشع بالضوء وقلب يخفق بمحبه البشر وأمام حضور طاغ يدعمه خفه روح فطريه لا تخونها "القفشه العفوية " حتى في اصعب المواقف " كانت خفة الظل قادرة على فك لحظات اشتباك كثيرا ما صنعتها آرائه وبينما نحن نتهيأ لمزيد من التصعيد في الاشتباك يطفئ "سيد إمام " بمهاره نادرة نيران أيه توتر قد تصنعه النقاشات الحادة والخلافات الفكرية " . ومنذ ذلك اليوم المضيء في حياتي ولم تتوقف علاقتي بالأب والمعلم ولم تشهد تصدعا على الإطلاق وأفخر أننى كنت ولما يزيد عن ربع قرن في تواصل شبه دائم ويومي تقريبا كما أنه قد جمعتني "بالبروف " – كما كنا نفضل أن نطلق عليه – جمعتنا مشتركات لم تتوفر للكثيرين من أبناء جيلي .. فهو الأب بالنسبة لكنه قبل ذلك الصديق الذى تذوب بينه وبين أصدقائه كل المساحات نلجأ إلى بحثا عن نصيحه فإذا به يقدمها دون وصاية أو تسلط فهو الذى يبدى دائما كراهيته للنصيحة و التوجيه ويرفض الوصاية حتى من جانبه علينا نحن أبناءه . تشابكت المشتركات ما بين الفكري والإنساني فقد كان " البروف " أحد رموز اليسار ومن بين المؤسسين لحزب التجمع في منتصف سبعينيات القرن الماضي وواحد من المخلصين في الدفاع عن قيم الاستنارة لكن الفارق كان كبير بينه وبين بعض الأستاذة الكبار والآباء المؤسسين وهذا ما جعل تأثيره أكبر وأعمق على الأجيال المتعاقبة الذين تعلقوا في جلساته كالمريدين الذين يبحثون عن نقطه ضوء لدى إمام الفكر .. فكان له دور كبير في تفكيك عدد كبير من القناعات "الخرسانية " التي سيطرت على الكثير خاصه في بدايات الشباب .. فعل ذلك دونما تعمد وبكل بساطه وسلاسة لنكتشف أننا نتغير ونزداد مرونة أمام قناعاتنا ونتخلص من ما يسمى بتصلب الشرايين الفكري. كانت تجمعه جلسات المقهى _ شبه اليومية – ولسنوات طويله صارت جلسته في مقهى "بندق أولا " ثم "الرشيدي مؤخرا" وكلاهما في ميدان جلال قريطم بمدينة دمنهور صارت قبله لكل من يبحث عن الضوء ويأمل في جرعه استناره أو بهجة النفس وكثير من الإبداع كان "إمام " أكثر من عرفتهم بساطه في طرح أفكاره ووضوحا وجرأة في مواقفه فلم يضبط باحثا عن مكسب شخصي أو يعمل من أجل تحقق ثروة في زمن كان قادرا على ذلك بكل سهولة قضى عمره منشغلا بالفكر والأدب وقضاياهم وحمل في قلبه وعقله هموم البسطاء وأوجاعهم .. ظل مدافعا عنهم بمحبه غامره تتسم في بعض الأحيان بقسوة المحب الغيور وهو يواجههم بقصورهم وعيوبهم ونقاط ضعفهم التي كان يرى أن اخطرها " تغييب العقل والبعد عن العلم بالإضافة الى السلبية التي تعرقل أي خطوه أو تقدم كان يقسو أحيانا دون تردد أو حسابات ضيقة .. فهو المحب المخلص الذى وهب للناس حياته في كل مراحلها . في العقد الأخير من حياته اختار "إمام " أن ينشغل أكثر بمشروعه الفكري والثقافي الذي تأثر لسنوات طويله بفعل انشغاله بدور فكرى طليعي وعمل ثقافي عضوي كان خلاله مقداما مشتبكا منحازا لكل ما هو حداثي وجاد ومعاديا دون تردد لكل ما هو ظلامي ردئ ولم تثنه عن مواقفه ولم تقلل من صلابته كل محاولات أنصار الظلامية ورعاة الظلم والإفقار. في سنواته الأخيرة قدم "إمام " للمكتبة العربية عشرات الأعمال معظمها في الترجمة ليحفر اسمه بحروف مضيئة في مسيرة الترجمة العربية ويصبح أحد أهم رموز هذا المجال الصعب والمؤثر. توقف القلب المحب للحياة وللناس ليسكن في قلوب كل من أحبوه وتعلموا منه قيم الحرية والعدل .. يتوقف القلب لكن العقل الذي أضاء مساحات من الظلام المحيط لا يمكن أن يتوقف لأنه ساهم فى صناعة الضوء وتبنى قيم الحداثة والتنوير في ظل أوضاع معاديه للحداثة ورافضه للتنوير. لقبه تلاميذه وزملاؤه ب" البروف " وكان وسيبقى " البروف " مع السلامة … الأب والمعلم والصديق ورفيق الدرب سيد إمام …