وظائف وزارة العمل 2024.. فرص عمل في مصر والسعودية واليونان (تفاصيل)    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 18 مايو 2024 بعد آخر انخفاض    أسعار الخضر والفاكهة في سوق العبور اليوم السبت 18مايو 2024    توريد 196 ألف طن قمح لشون وصوامع البحيرة حتى الآن    الاحتلال يزعم اغتيال قيادي بارز في حركة الجهاد الإسلامي في غارة على رفح    لاعب نهضة بركان: الجميع يعي المسؤولية لحصد لقب الكونفدرالية    قبل نهائي دوري أبطال أفريقيا.. صراع أوروبي على ضم محمد عبدالمنعم لاعب الأهلي    محافظ القليوبية يتابع امتحانات الشهادة الإعدادية العامة والأزهرية في بنها وطوخ    «الداخلية»: ضبط قضايا اتجار في النقد الأجنبي ب 33 مليون جنيه خلال 24 ساعة    أوكرانيا: ارتفاع قتلى الجنود الروس إلى 491 ألفا و80 جنديا منذ بدء العملية العسكرية    وزير التعليم يصل بورسعيد لمتابعة امتحانات نهاية العام.. صور    «الإسكان»: بدء تسليم أراضي «بيت الوطن» بالمرحلة التكميلية غدا    بداية من اليوم.. رابط التقديم في معهد معاوني الأمن 2024 عبر موقع وزارة الداخلية (تفاصيل)    باحثة ب«المصري للفكر والدراسات»: القاهرة تعمل لإيجاد حل جذري للأزمة في غزة    مصرع شخصين وإصابة 8 في حادث تصادم سيارتين بالشرقية    التحقيق مع عامل لسرقته 8000 دولار من داخل سيارة في كرداسة    «يضم 100 ألف قطعة».. متحف الفن الإسلامى يفتح أبوابه مجانا اليوم    ما حكم الرقية بالقرآن الكريم؟.. دار الإفتاء تحسم الجدل: ينبغي الحذر من الدجالين    بينها التوت والمكسرات.. 5 أطعمة أساسية للحفاظ على صحة القلب والأوعية الدموية    أول تعليق من «الصحة» على متحور كورونا الجديد «FLiRT»    مصر تبدأ المناقشات مع صندوق النقد للحصول على 1.2 مليار دولار    بدء تسليم أراضي المرحلة الثامنة من «بيت الوطن» بالعبور الجديدة.. الثلاثاء المقبل    بحثا عن لقبه الأول.. مصطفى عسل يضرب موعدا ناريا مع دييجو الياس في بطولة العالم للاسكواش    لمواليد 18 مايو.. ماذا تقول لك الأبراج في 2024؟    ليلى علوي: الزعيم عادل إمام مَثَل أعلى لينا وتاريخ عظيم    «طائرة درون تراقبنا».. بيبو يشكو سوء التنظيم في ملعب رادس قبل مواجهة الترجي    معاريف تكشف تفاصيل جديدة عن أزمة الحكومة الإسرائيلية    مصدر رفيع: مصر عازمة على اتخاذ الإجراءات اللازمة لإدانة ممارسات الاحتلال أمام العدل الدولية    طريقة عمل شاورما الفراخ، أكلة سريعة التحضير واقتصادية    مفتي الجمهورية يوضح مشروعية التبرع لمؤسسة حياة كريمة    حادث عصام صاصا.. اعرف جواز دفع الدية في حالات القتل الخطأ من الناحية الشرعية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 18-5-2024    تشكيل أهلي جدة المتوقع أمام أبها في دوري روشن السعودي    بكاء والدها وقبلة شقيقها.. أبرز لقطات حفل زفاف الفنانة ريم سامي    مواعيد مباريات اليوم السبت.. الترجي ضد الأهلي وظهور ل«عمر مرموش»    صحة مطروح تدفع بقافلة طبية مجانية للكشف على أهالي النجيلة    البيت الأبيض: أطباء أميركيون يغادرون قطاع غزة    قبل فتح اللجان، تداول امتحان اللغة العربية للشهادة الإعدادية بالشرقية، والتعليم تحقق    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. السبت 18 مايو    أوما ثورمان وريتشارد جير على السجادة الحمراء في مهرجان كان (صور)    ناقد رياضي: الترجي سيفوز على الأهلي والزمالك سيتوج بالكونفدرالية    جوري بكر بعد انفصالها: «صبرت كتير واستحملت اللي مفيش جبل يستحمله»    عادل إمام.. تاريخ من التوترات في علاقته بصاحبة الجلالة    ذوي الهمم| بطاقة الخدمات المتكاملة.. خدماتها «مش كاملة»!    عاجل - تذبذب جديد في أسعار الذهب اليوم.. عيار 14 يسجل 2100 جنيه    عاجل.. حدث ليلا.. اقتراب استقالة حكومة الحرب الإسرائيلية وظاهرة تشل أمريكا وتوترات بين الدول    لبلبة تهنئ عادل إمام بعيد ميلاده: الدنيا دمها ثقيل من غيرك    كاسترو يعلق على ضياع الفوز أمام الهلال    خالد أبو بكر: لو طلع قرار "العدل الدولية" ضد إسرائيل مين هينفذه؟    طبيب حالات حرجة: لا مانع من التبرع بالأعضاء مثل القرنية والكلية وفصوص الكبد    الأرصاد: طقس الغد شديد الحرارة نهارا معتدل ليلا على أغلب الأنحاء    قبل عيد الأضحى 2024.. تعرف على الشروط التي تصح بها الأضحية ووقتها الشرعي    مذكرة مراجعة كلمات اللغة الفرنسية للصف الثالث الثانوي نظام جديد 2024    بعد عرض الصلح من عصام صاصا.. أزهري يوضح رأي الدين في «الدية» وقيمتها (فيديو)    «البوابة» تكشف قائمة العلماء الفلسطينيين الذين اغتالتهم إسرائيل مؤخرًا    أستاذ علم الاجتماع تطالب بغلق تطبيقات الألعاب المفتوحة    ب الأسماء.. التشكيل الجديد لمجلس إدارة نادي مجلس الدولة بعد إعلان نتيجة الانتخابات    البابا تواضروس يلتقي عددًا من طلبة وخريجي الجامعة الألمانية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أشرف بيدس يكتب عن العملاق محمود مرسي
نشر في الأهالي يوم 21 - 04 - 2020

*بقلم أشرف بيدس:ينفذ محمود مرسي إلي المناطق الرمادية في الاداء ليكشف ابعاد شخوصه، ويبحث في خلفياتها الاجتماعية والثقافية ويسبغها بأداء منضبط لا يستعرض قدراته كممثل بارع، وإنما يعطيها مشاعرها الحقيقية دون افراط أو شح.. يدخل إلي عوالمها السحيقة والخفية ليفتح خزائن أسرارها.. حتي يصبح الفصل بينهما عملا شاقا ومربكا.. ولا تفلح المحاولات، فالرجل يعيش حالات شخوصه بكل منحنياتها النفسية والانسانية.. يترك نفسه لتلتهمه احباطاتها وانتصاراتها.. في الغضب يمحي كل سدود التوسل والرجاء ولا يتردد.. وفي لحظات الفرح طفل يحبو علي بساط البراءة.. قدمين واقفتين ثابتتين علي الأرض لا تزحزهما الزلازل.. وجناحين لا يحطان علي الأرض من فرط وداعتهما.. حالتان من الحرمان والشبع تصلان إلي حد الاشفاق والألم.. يذبح الحمامة بدم بارد، ويحمل عروس الحلاوة لفؤادة.. وفي الحالتين يحمل قلب ينبض بالفن والاستاذية..
لم يكن الخوف ينتاب “الدهاشنة” فقط عندما يرون “عتريس” أو عندما كانت تغني المجاميع : اهووو.. بالضحكة دي .. بالخلقة دي.. بالبصة دي.. مالي الدهاشنة الخوف” كانت تكفي طلة عتريس وهو يضحك متمثلا أمامهم بجبروته وقوته وعنفوانه وديكتاتوريته، وما يحيط به من هالة وسطوة، كانت تكفي نظرته لتتسع مساحات الرهبة وهي تتسلل إلي مقاعد المتفرجين داخل دور العرض لتنتابهم نفس حالة الفزع والترقب عندما تحتل صورته الشاشة لتملأها ضجيجا وصخبا وفنا وإبداعا .. أنه محمود مرسي الفنان القدير الذي ترك فراغا كبيرا لن يستطيع أحد أن يعوضه وليضاعف برحيله الفراغات التي تحيط من حولنا.
ولد الراحل محمود مرسي محمد في الإسكندرية (7 يونيو 1923 – 24 أبريل 2004)، انفصل والده ووالدته, وتم الحاقه بمدرسة داخلية, التحق باداب الاسكندرية قسم فلسفة، ثم انتقل إلى باريس، حيث درس الإخراج السينمائي في معهد الدراسات السينمائية العليا هناك لمدة عامين. وفي عام 1954 ذهب إلى لندن ليعمل مخرجاً في الإذاعة البريطانية. وفي عام 1956، احتجاجا وتسجيل موقف وطني، استقال مع زملائه المصريين من هيئة الإذاعة البريطانية أثناء العدوان الثلاثي على مصر.. وعاد إلى القاهرة للعمل في الإذاعة المصرية وأخرج العديد من البرامج والدراما الإذاعية، كما اخرج مسرحيات عالمية، الى جانب تجسيده شخصية “الحلاج” في مسرحية صلاح عبد الصبور “مأساة الحلاج” التي يرى بعض النقاد انها واءمت هواه ، كما اخرج للتليفزيون للاديب احسان عبد القدوس “زوجة وسكرتيرة” و”قضية ضم” ونعيمة وصفي “ام لاولادي” وفؤاد القصاص “الحب الكبير”. وعندما أنشأ التليفزيون المصري عام 1960، سافر مع المخرج حسين كمال إلى روما لدراسة الإخراج المسرحي والدراما التليفزيونية والنقد الفني.
كان دوما الفارس المنتصر في عصر مهزوم حتي وان بدت ملابسه ملوثة بالدماء.. لم ينظر خلفه، كانت له أحلامه الخاصة وأمنياته العامة، خطط لأهدافه دون الالتفاف حول ما يحيطه من صور وظواهر ، لم يشغله سوي فنه، فكان أقدر علي اجتياز المصاعب.
فكرة الوقوف أمام الكاميرا حلم لم يسعي إليه بعيدة عن احلامه, ربما هذا يبرر دخوله المجال السينمائي متأخر 40 عاما تقريبا, رغم ان أول أعماله كان فيلم “أنا الهارب” 1962 للمخرج نيازي مصطفي وانتاج صلاح ذوالفقار ورمسيس نجيب, لكن كان هناك عرض من يوسف شاهين ليؤدي دور “ابو سريع” في فيلم “باب الحديد” عام 1958 تم رفضه من قبل محمود مرسي حيث رأي أن أجره عن الفيلم ومبلغ 50 جنيها ضئيلا وغير كافيا, واسند الدور لفريد شوقي الذي شاركه بطولة أول أفلامه, وقد يري البعض أنها فرصة قلما تعرض علي ممثل في عالم السينما وامام مخرج كبير وممثلة ذائعة الصيت في ذاك الوقت “هند رستم”, وهذا يدلل أنه كان يملك قوة الرفض والقبول وهو يخطو خطواته الاولي, جسد محمود مرسي في الفيلم شخصية السجين “عرفان” المشاكس الذي يفتعل المشاكل في السجن ويخطط للهروب, ويلحظ المتفرج من أول مشهد في الفيلم أنه أمام ممثل متمرس يجيد التعبير عن انفعالاته المختلفة ويتمتع بكاريزما عالية يستحوذ بها علي انتباه من يشاهده.. وقد عبر محمور مرسي عن سعادته بالعمل مع فريد شوقي صاحب الشعبية الطاغية.
في العام التالي 1963 اختاره المخرج محمود ذوالفقار لبطولة فيلم “المتمردة” أمام صباح واحمد مظهر وبمشاركة زوجته في ذاك الوقت سميحة ايوب, وجسد شخصية كامل صبري الممثل الذي يقع في حب الثرية سوسن طمعا في ثروتها, كان دورا عاديا لا يتوافق مع امكاناته الفنية ولا يرتقي بفيلمه الاول, ثم يأتي فيلم الثالث “الباب المفتوح” 1963 للمخرج بركات عن قصة لطيفة الزيات وأمام فاتن حمامة ليعوض اخفاق فيلمه السابق, وإن كانت الشخصية تستقي مواقفها من نزعة ذاتية تميل للشر, ورغم أن دوره يبدأ تجاوز نصف احداث الفيلم, لكنه استطاع أن يفرض وجوده وأن يستحوذ علي مشاهده التي جمعته بفاتن حمامة وكان ندا قويا من خلال شخصية استاذ الجامعة المتجهم الذي يحاول أن يفرض سطوته علي تلميذته, وكان اجاده للدور أهم الاسباب التي دعت كمال الشيخ لترشيحه لبطولة فيلمه الرابع “الليلة الاخيرة” في ذات العام وأمام فاتن حمامة أيضا, وهو لازال محصور في حدود الشخصية الشريرة, من خلال شخصية شاكر عبد الحميد التي تموت زوجته ووالدها وتفقد شقيقتها الذاكرة التي ستؤول إليها الثروة, فيدعي أن التي ماتت هي شقيقة زوجته وان المصابه بفقدان الذاكرة هى زوجته فوزية، ويعياش معها بعد ان ورثت والدها, وعندما تعود الذاكرة للشقيقة تكتشف المؤامرة التي دبرت عليها. مرت الشخصية بعدة انفعالات ومواقف ساخنة استطاع محمود مرسي أن يجيد تجسيدها لدرجة جعلت فاتن حمامة تصفق له بعد اداءه لأحد المشاهد, وعقب محمود مرسي بأنها كانت المرة الأولى والأخيرة التي يصفق له أحد فيها بالاستوديو.
في نفس العام يعاود الظهور أمام فريد شوقي مرة أخري بعد أن اختاره المخرج بركات ليجسد شخصية “بدران” رجل الدولة المستبد في فيلم “امير الدهاء”, وفي عام 1964 يشهد البطولة الاولي أمام نادية لطفي في فيلم “الخائنة” للمخرج كمال الشيخ, وهو دور من الادوار الصعبة التي تحتاج إلي ممثل قادر علي بناء انفعالاته الداخلية وحالات تمزقها, دون اسراف, وبقدرة عالية علي التحكم في اعصابه المنهارة دون أن يفقد بوصلة التعبير والابحار في شخصية تفاجئ بخيانة زوجته, ونجح محمود مرسي في التصدي للدور بكفاءة عالية ومثل الدور نقلة في الاداء لم تشهدها السينما المصرية من قبل, عندما تتحول الشخصية من النقيض إلي النقيض بمعطيات منطقية ودون صراخ أو عبارات مبالغ فيها, كان عليه أن يستعد نفسيا وادائيا لشخصية مركبة نجح في تصديرها للمتفرج, بثقة واتقان ووعي مضيفا للشخصية عمقا وتعاطفا في ذات الوقت, لم يكن الأمر هينا حينما يتحول الغليان إلي هدوء مصطنع وتروي بينما الملامح تنتفض من الثورة والغضب, والقدرة الاستثنائية علي تلوين الصوت ليتفق مع عبارات تبحث عن اجابات لا يملكها أحد.. في مشهد عبقري يلتقي دون ميعاد مسبق الزوجة الخائنة والصديقين المتشبه بهما, ويقوم الزوج المخدوع بادارة المباراة بتصاعد انفعالي وادائي محسوب ببراعة وهو ينتقل بنظرات الاتهام ناحيتهما بينما الزوج ترقب ما يحدث في اريحية غير مبالية بما سوف يحدث, لكن الصديقين ينتابهما الفزع مما يحدث, وفجأة ينقلب هذا الهادئ إلي ثور هائج يوزع اتهامات علي الحاضرين وهو يملك من المنطق ما يتيح له من الاستمرار في ثورته.
وفي عام 1965 يشارك في فيلم “العنب المر” أمام لبني عبد العزيز للمخرج فاروق عجرمة وعن قصة لمصطفي محمود, وفي عام 1966 يقدم فيلم “فارس بني حمدان” للمخرج نيازي مصطفي, أمام سعاد حسني وفريد شوقي, و”ثمن الحرية” 1967للمخرج نور الدمرداش ليعود مرة أخري للبطولة أمام كريمة مختار في دور ظابط انجليزي, ورغم ان معظم الادوار تندرج تحت مسمي ادوار الشر لكننا غير متشابهة في الطرح أو الاداء. وهذا يدلل علي حسن اختياره وعدم وقوعه في مصيدة التكرار.
ثم يأتي فيلم “السمان والخريف” عن قصة نجيب محفوظ للمخرج حسام الدين مصطفي ليمثل نقلة نوعية في أدواره وتشاركه البطولة نادية لطفي لثالث مرة في دور من اروع ادوارها والتي شاركته في فيلم اخر “الليالي الطويلة” للمخرج احمد ضياء الدين.. مثلت شخصية “عيسي الدباغ” محطة مهمة في حياة محمود مرسي السينمائية, عندما جسد معاناة مناضل يخسر كل شيء في لحظة واحدة؛ تاريخه الوطني، ووظيفته، ونفوذه، وامه، وخطيبته، ويتنكر له أقرب الاقربين, فيذهب إلي الإسكندرية ليعيش أزمته بنصف جسد ونصف عقل وقلب مشروخ، وكثيرا من الذكريات المؤلمة، في محاولة للنسيان.. فلم يجد غير أحضان فتاة الليل “ريري” ليلقي بأخر ما تبقي له من مقاومة.. حالة من الضياع تتخبط وتتصارع مع نفسها تجلد نفسها ويعذبها واقعها المرير.
في 1969 يستطيع حسين كمال أن يكتشف منطقة ادائية أخري لم يلتفت إليها أحد من قبل ويسند إليه دوره الاشهر “عتريس” في رائعة ثروت اباظة “شيء من الخوف” أمام العملاقة شادية, ويظل الفيلم في ذاكرة الناس عملا ملحميا ضنت السينما بمثله.. حيث جسد حالتين متناقضتين من العشق والقسوة, “عتريس الابن” العاشق الذي تفزعه نظرة فؤاده وهما واقفان علي جسر الترعة عندما يقول لها “متطليش في عيني اكده متفزعنيش” وهو أيضا “عتريس الجد” الطاغي الذي يقتل ويسرق وينهب ولا يهتز له جفن. ويتفوق محمود مرسي علي نفسه وتظل الشخصية في أذهان الجماهير عنوانا للقسوة والبطش والطغيان.
في السبعينيات كان نضوج الفني يبلغ ذروته ويقدم إحدي عشر فيلما, بدأها مع فيلم “زوجتي والكلب” في باكورة أعمال المبدع سعيد مرزوق مخرج ومؤلف, حيث يجسد شخصية الريس مرسي الذي يعمل في أحد المنارات مع أربع رجال و كلب حراسة, ومرسي هو المعلّم يتبعه ثلاثة رجال ومنهم نور , والفيلم يعتبر من اجرأ الافلام المصرية, وقد اعطي العمل للشخصيات اسماءها الحقيقية. استطاع الفيلم تقديم شكل جديد فى السينما المصرية لم يكن متاحا من قبل من حيث تكوين الكادرات وزوايا التصوير وحركة الكاميرا وتسلسل اللقطات وقطعها واعادة دمجها مرة أخري لتأكيد الفكرة, ورغم أن محمود مرسي كان اسما كبيرا في ذلك الوقت لكنه لم يخشي من التعامل مع مخرج جديد وهي ليست المرة الاولي, وقد اشاد بالعمل ومخرجه وتنبأ له بمستقبل كبير وهو ما كانز
في عام 1972 قدم فيلم “أغنية علي الممر” المأخوذ عن مسرحية لعلي سالم واخراج علي عبد الخالق، في أول عمل له, والفيلم يحكي عن مأساة خمسة جنود محتجزون في ممر بالصحراء بعد أن يستشهد جميع زملائهم أثناء حرب 67 وينقطعون عن العالم بعد أن يتلف جهاز اللاسلكي. الشاويش محمد فلاح يترك أرضه ليزرعها أولاده ليشارك من قبل في حرب 56. حمدي الفنان الذي يحلم بالارتقاء بالأغنية بعيدًا عن الابتذال، وشوقي الذي ينشد المثالية ومسعد العامل البسيط الذي يحلم بالاستقرار مع زوجة، أما منير فهو انتهازي.
الفيلم هو أول إنتاج لجمعية “جماعة السينما الجديدة”، التي تكونت من رأفت الميهي وعلي عبد الخالق وحسين الوكيل وفتحي فرج ومحمد راضي. وقد فردت له مجلة نادي السينما عدد خاص وكان العدد العشرين للمجلة، إحتوى على حوارات مع القائمين على الفيلم، وآراء كبار النقاد.. والفيلم لم يقدم تشريح وتحليل أسباب الهزيمة فقط، ولكن أكد علي عدم الاستسلام في وقت النكسة. وجسد محمود مرسي شخصية الشاويش محمد الذي حارب حتي آخر نقطة دم. بينما في “ابناء الصمت” 1974 للمخرج عن قصة لمجيد طوبيا واخراج محمد راضي ، الفيلم يحكي عن فترة ما بعد النكسة، حيث يقدم شخصية مغايرة من خلال رئيس التحرير”راجي” الذي يحاول من خلال موقعه تغييب الشعب من خلال نشر موضوعات للتسلية والترفيه، متجاهلا ما يحدث حوله من أزمات كانت سببا رئيسيا في حدوث النكسة، ويعيش صراعا مريرا بين تاريخه النضالي ومقتضيات منصبه. وكعادته يجتاز مشاهده ببراعة.
في عام 1973 يقدم محمود مرسي فيلم “ليل وقضبان” في باكورة أعمال اشرف فهمي, وهي ليست المرة الاولي أو الاخيرة, فيبدو أن المخرجين الجدد عند التصدي لاعمالهم الاولي يحاولون توفير ضمانات لنجاح أفلامهم, فلا يرون سوي اسناد تلك الاعمال إلي ممثل في حجم وقيمة محمود مرسي, في هذا الفيلم يقدم شخصية توفيق عبد الهادي مأمور السجن الصارم المتجهم الذي يلهث وراء طموحه الوظيفي ولا يستطيع أن يفصل بين أسوار السجن وجدران بيته, ليدخل منطقة ادائية مختلفة اجتازها ببراعة, فسماع نباح الكلاب وهي تنهش في اجساد المساجين افضل من نغمات الموسيقي الهادئة..
يأتي التعامل الثاني مع نجيب محفوظ وحسام الدين مصطفي من خلال فيلم “الشحات”1973وتدور قصة الفيلم حول عمر الحمزاوي الذي يعمل بالمحاماه, وفي صدر شبابه ناضل ضد الاستعمار, تزوج ورزق ببنتين, لكنه ظل طوال حياته يبحث عن سر الكون وعن خالقه حتي اهتدي في نهاية الطريق. ومثل هذا الفيلم مرحلة جديدة في حياة محمود مرسي وهو من الاعمال التي صنفت علي أنها فلسفية, واستطاع دارس الفلسفة أن ينفذ إلي مكنون الشخصية ويخرج تشككها في اداء عبقري بعد أن احكم قبضته علي الدور.
في عام 1974 تصدي محمود مرسي لاولي تجارب صبحي شفيق والاخيرة في السينما من خلال فيلم التلاقي وهو من الافلام الجريئة التي وصفها النقاد بأنها موجة جديدة من الأفلام الفيلم الحداثية, لكن البعض هاجم الفيلم بقسوة. الفيلم كان يحكي حكاية ثلاثة من الشباب حديثي التخرج لايستطيعون التكيف مع مجتمعهم، ويشعرون بالاغتراب، (كمال) العالم الشاب الذي لايتأقلم مع الإمكانيات القليلة في عمل أبحاث تفيد وطنه ، (مصطفى) الشاب المهموم بقضايا الوطن الذي يصطدم بآراء رئيس تحرير الجريدة التي يعمل بها صحفيًا،(نبيل) الذي تتوالى أمامه مظاهر الفساد والاختلاس في المستشفى التي يعمل بها، ولايستطيع فعل شيء، فيشعرون باليأس وعليه يقررون الهجرة. شارك في الفيلم سهير المرشدي – حبيبة – مديحة كامل- عمر خورشيد .
في ذات العام يتعاون المخرج اشرف فهمي مع السيناريست مصطفي محرم عن نص مقتبس للأسطورة الإغريقية «فيدرا» التى عالجها الكثير من الكتاب كان أولهم الإغريقى يوروبيدس الذى قام بمعالجة هذا الموضوع الشائك عن غرام زوجة أب بابن زوجها الشاب، فكان فيلم “امرأة عاشقة” أمام شادية وحسين فهمي، ولم يحمل الدور قيمة او اضافة لمشوار محمود مرسي. رغم أهمية الموضوع وجرأته.
تتكرر المحاولة مرة أخري مع أشرف فهمي في فيلم “امواج بلا شاطئ” 1976 عن قصة لثروت اباظة، كثير من أفلام محمود مرسي دارت حول فكرة الخيانة، وكان في جميع هذه الاعمال هو الضحية، ولكن في هذا الفيلم يختلف الأمر ويحل هو الطرف الآخر، شاركه البطولة شادية للمرة الثالثة وليلي فوزي وحسين فهمي.
“شمس الضباع” فيلم تونسي قام باخراجه وتأليفه المخرج التونسي الكبير رضا باهي, حصد أكثر من 27 جائزة وهو اول فيلم عربي يعرض في صالات باريس, اسند البطولة لمحمود مرسي الذي جسد دوره باللهجة التونسية، يتناول الفيلم قصة بلدة نائية،هادئة، يعيش سكانها من صيد السمك، ينهضون صباحا للذهاب إلى حرفهم البسيطة وينامون مساء تحت وطأة التعب والفقر ضمن إيقاع حياة بطيئة، تكاد تكون مملة تفقد القرية سلامها حين يلتفت لها احد أصحاب رأس المال للاستثمار فيها دون الالتفات إلي احتياجات أهلها، ويحدث التحوّل الكبير الذي يقلب البلدة رأسا على عقب ويجرف الناس وحرفهم الصغيرة تحت رحمة توحش رأس المال، فيما يحلّ صخب السياح مكان السكينة التي كانت ويغرق الأهالي في دوّامة الأعمال الخدمية للسياح و أصحاب رءوس الأموال .
استنادا علي مقولة قديمة صرح محمود مرسي في حوار مع مجلة المصور حول اغاني احمد عدوية من أنها افضل من معظم أغاني هذه الأيام وأحمد عدوية فنان شعبي حقيقي تخرج من الحارة المصرية وأنا أرى انه يجب أن يكون للحارة أغانيها وللغرز والمقاهي والمواخير والطوائف المختلفة أغانيها أيضا” نري أن محمود مرسي الذي شهد له تاريخه بالجدية والالتزام في الادوار التي تصدي لها جاءت مشاركته الرمزية في فيلم “فيفا زلاطا ” 1976 تأكيدا لهذه المقولة.
أن اختيار 7 افلام ضمن قائمة افضل مائة فيلم في تاريخ السينما رقم كبير, بالقياس لعدد افلامه التي لم تتجاوز 30 فيلما وان دلل ذلك علي شيء أنما يؤكد علي قيمة الاعمال التي قدمها محمود مرسي خلال مشواره السينمائي.
كانت مواجهة متواضعة جمعت بين عادل ادهم ومحمود مرسي من خلال فيلم “السمان والخريف” تتكرر مرة أخري علي يد يحيي العلمي في فيلم “طائر الليل الحزين” 1977، بمشاركة نيللي ومحمود عبد العزيز، عن سيناريو لوحيد حامد حيث أدي دور وكيل النيابة حازم المغربي الذي يقف ضد رجل من مراكز القوي لنصرة شاب متهم ظلما بالقتل. وكالعادة محمود مرسي في اداء متميز.
في أول محاولاته السينمائية وكعادة المخرجين الجدد يستعين محمد كامل المخرج والمؤلف بمحمود مرسي ليقوم ببطولة فيلمه “من يدفع الثمن؟” 1980، وبعد ذلك قدم فيلم “سعد اليتيم” 1985 أمام فريد شوقي واحمد زكي، وفي 1986 قدم عمل من انتاج نجوي فؤاد “حد السيف” وكانت آخر أفلامه الفيلم التليفزيوني عام 1997 “الجسر” أمام مادلين طبر للمخرج والمؤلف عمرو بيومي.
أما الدراما التليفزيونية فكان له باع طويل وجماهيرية طاغية وظلت أعماله تراث نفيسا في تاريخ الدراما، وهج الصيف (عمل لم يكتمل برحيله) – 2004, بنات افكارى – 2001, لما التعلب فات – 1999, ولد وبنت وشايب – 1999, مذكرات ضرة – 1999, ابو العلا 90 – 1996, العائلة – 1994, الطوفان (إذاعي) – 1992, قصر الشوق – 1988, سكة رجوع (سهرة) – 1988, عصفور النار – 1987, بين القصرين – 1987, سفر الأحلام – 1986, رحلة السيد أبو العلا البشري ج1 – 1985. المحروسة 85 – 1985, الرجل والحصان – 1982, دمعة ألم – 1981, العملاق – 1979, زينب و العرش – 1979, الليلة الموعودة – 1978, رمضان و الناس – 1978, بنت الايام – 1977, المجهول – 1977, إني راحلة – 1976, عندما يشتعل الرماد – 1973, بنك القلق – 1972, المانشيت الأحمر – 1964, وكان سرابا – 1900, صعود بلا نهاية (سهرة) – 1900, دخان الجريمة – فيلم تلفزيوني – 1900, رعد السماء (إذاعي) – 1900, قاهر الظلام (إذاعي) – 1900.
كان يعرض عليه كل اسبوع سيناريو مسلسل جديد, لكن اختياراته كانت مرهقة ويخضعها لشروط صارمة, فالقضية التي يناقشها في عمل سابق لا يقترب منها مرة أخري, معللا ذلك بأنه يحرم نفسه من مناقشة قضية جديدة, وحتي عندما تكون الشخصية جديدة في اطار حكاية مكررة يبتعد أيضا عنها, أما الاعمال دون المستوي والتي كان يري أنها “اكل عيش” فهي تعد من المحرمات, حرص محمود مرسي أن يترك أعمال تحمل قيمة ورسالة لتذكرها الجماهير له, ظل الرجل وفيا لقناعاته.. لم يلحق محمود مرسي هيستيريا ارتفاع الاجور التي فاقت كل التوقعات, فأعلي أجر حصل عليه كان 10 آلاف جنيه في الحلقة, ولو كان عاش فإن قيمته النقدية وليست الفنية توازي الآن ودون مبالغة أكثر منمليونجنيه في الحلقة وهو رقم بالمناسبة معتاد في هذه الايام.
لم يصعد السلم من اول درجاته, وفوجئت به الجماهير وهو يقف علي قمته لم يحيد شمالا أو يمينا وظل ثابتا لا تحركه عواصف أو انتكاسات, كان يزداد بريقا مع الوقت وتوهجا .. ورغم شهرته الكاسحة الطاغية التي شهد بها القاصي والداني نزعم أنها لم تصل إلي اسماعه بصورتها الحقيقية, وتعامل معها بتواضع شديد وبلا مغالاة, وكان ذلك سر من أسرار تفرده واستاذيته..
لم يستسلم محمود مرسي لادوار “الجان” وكان يملك كل مقوماتها بجدارة ولا تشدد في ذلك فالصورة واضحة ناطقة لا ينقصها الوصف, ورغم مغريات البطولة السينمائية ورغبات الجماهير لكنه كان يعي أهمية أن يجسد ما يتوافق مع طبيعته وثقافته وقناعاته, ويؤكد علي ذلك أن مجموع أفلامه ضئيل للغاية لا يتوافق مع حجم موهبته أو سنوات عمله بالفن والتي تجاوزت اربعين عاما, فقد بدأ محمور مرسي العمل في السينما وهو في سن التاسعة والثلاثون وهو سن متقدم بعض الشيء, فكل نجوم السينما بدأوا في سن العشرين, حتي يستطيعوا أن يصنعوا نجوميتهم بتراكم الاعمال. ربما كان يعي ذلك فآثر الاختيار الدقيق لأعماله.
يحمل وجه طري لين اسطاع ان يشكله بانفعالات مختلفة ومتفاوتة, وهو امر ليس هينا يحتاج إلي جهد ووعي لضبط ايقاعاته الانفعالية والتحكم في درجة ارتفاع الصوت او انخفاضه وتلوينه, والتعبير بنظرة العين وانتقالها من حالة إلي اخري دون اسراف وبدقة محسوبة.
عاش محمود مرسي اكثر من نصف عمره في بؤرة الضوء وفي موقع متميز منها, لكنه حرص طيلة حياته علي الابتعاد قدر الامكان عنها, فلهثت الاضواء نحوه لكنها لم تخضعه لاغراءاتها.. قد يكون هناك بشر متشابهين, لكن هناك فئة قليلة مختلفة بما تملكه من سمات وقدرات غير متوافرة عند البعض.. ومحمود مرسي كان واحدا من المتفردين الذين تمتعوا بسمات خاصة غير معتادة.. فيندر أن نجد شخصا شديد العمق والرؤية ويتمتع في ذات الوقت بالفطرة والسجية البكر, يستطيع ان يفرز الغث والثمين دون امتهان أو مبالغة لاحداهما ووفق قناعات أخلاقية وثقافية منضبطة.. لا يمنح صكوك الثقة دون اشارات دالة ومواقف ثابتة.. ولا يقبل الآراء المتأرجحة والباهثة وهو ايضا لا يمارسها.. كما أ،ه لا يتطوع بفوبيا التصريحات إلا في حالات نادرة يري أنها قد تلحق به بعض من الاذي, ولم نجد منها الكثير, ظلت حواراته واحاديثه شحيحة ونادرة للغاية, لم يوثق منها سوي حوار يتيم مع مجلة المصور.. وعن قلة احاديثه يقول : ” أنا لست من هواة الاحاديث المنشورة ولا أفضلها لأن الكلام فيها دائما مكرر ومعاد والاجابة فيها دائما لا تتغير، ثم ماذا هناك من جديد لأقوله؟! واتصال النجم أو الفنان بجمهوره يأتي عن طريق العمل في المقام الاول، ذلك الاتصال هو حوار علي المستوي الروحي والعقلي والوجداني وأنا لم اقاطع الجمهور لأن الفنان ليس بمقدوره أن ينعزل عن فنه أو جمهوره ثم اني انسان قبل أن اكون فنانا.. وأنا واحد من هؤلاء الذين لا يجيدون التحدث عن أنفسهم”.. لم يتزوج محمود مرسي سوي مرة واحدة من الفنانة سميحة ايوب الذي تعرف عليها أثناء عمله في محطة البرنامج العام وانجبت له ابنه الوحيد علاء الذي يعمل في التحليل النفسي، وقد خاض بعض التجارب التمثيلية القليلة، وفي حوار اذاعي لأم ابنه قالت «كان نموذج لن يتكرر فنيًا وأخلاقيًا وثقافيًا، وكان زاهدًا وعازفًا عن ضجيج المجتمع وطبوله الجوفاء، كما أنه كان خليطًا من عزة النفس والكبرياء والتواضع الشديد أمام العلم والمعرفة».
أحيانا ما يرضي الجمهور لا يرضي النقاد, وكثير من الفنانين الكبار الذين يخشون علي شعبيتهم يقدمون ما يرضي اذواق الجماهير حتي وان خالفت قناعتهم, ولا يعولون علي آراء النقاد, ربما لأن هتاف الجماهير ودوي تصفيقهم يمنع مرور أي صدي آخر, فلا صوت يعلو فوق صوت الجماهير, وكثيرون استطاعوا أن يمارسوا هذه اللعبة, وكثيرا ما نجحت, بل في الغالب تنجح, لكنها للاسف لا تعيش وتتبخر, وتبقي الأعمال الصادقة التي لا زيف فيها ولا ادعاء, والتي تحمل رسالة إنسانية لا تعابث اهواء أو تغازل رغبات, كان محمود مرسي واحدا ممن لا يلجأون إلي الالتفات ودائما ما كان يراهن علي القيمة, لذلك ستظل أعماله باقية وصالحة للفرجة لأنها حملت في طياتها ما يأمن لها الديمومة.
شديد الخجل والحياء والموهبة.. لكن ثقته بنفسه كانت جامحة, يميل إلي المهمشين ويثمن آرائهم فهو زاد الارض, لا يكره السلطة لكن ينحاز إلي الناس الذين لا يملكون قوت يومهم.. مثل محمود مرسي نموذجا فنيا مرموقا وأيضا انسانيا بالغ الرقة والتواضع
لم تمنح السينما الاكاديميين الكثير من الشهرة, ولم يستطع الكبار من المعلمين من تحقيق الشهرة بمفهومها الجماهيري من العمالقة الذين اشتغلوا بتدريس الفن, سوي محمود مرسي فقط, ليس لنقص أو عيبا في هؤلاء الكبار, وإنما المسألة ببساطة أن النجومية تخضع لشروط معنية, توافرت في محمود مرسي الذي يعتبر أول فنان يحصل علي جائزة الدولة التقديرية, وكل من حصل عليها من قبله كانوا من المخرجين, لكنها اعطت لاول مرة له بصفته ممثلا.
كثيرا ما نطلق لقب عملاق علي العديد من الفنانين, حتي استهلك اللفظ وأصبح مشاعا, ولكن عند تطبيق المعايير اللغوية للكلمة, فإن الامر يختلف ويصبح لزاما علينا فرض الشروط الصارمة, ومعني لفظ عملاق في المعاجم العربية والاجنبية يعني: ما يفوق بني جنسِه في الطُّول أو الضَّخامة أو في حقلٍ من العلم والأدب وغيرهما, وهو الامر الذي ينطبق علي محمود مرسي الذي تفوق علي زملائه من الممثلين في الادوار الاتي اسندت إليه وأبلي بها بلاءا متميزا لم يستطع الاخرون من بلوغه.
يستطيع الممثل الذي يملك تجربة حياتية خاصة جاورت الحزن والحرمان أن يتفوق في التعبير عن هذه المعاني دون غيرها مجترا آلامها وعذاباتها, وعندما يجيد التعبير عن الظلم والقسوة والفرح والحب والايثار والزهد والانانية والغيرة والتمزق والخيانة والخضوع والتشتت والانفراط والعزلة والشك والنضال والتخاذل والتمرد والغضب, فليس بالضرورة أن يكون عايش كل هذه الحالات المختلفة, ولكن حتما أن يكون ممثلا بارعا يملك ادوات تمثيلية تجعله يعبر كل هذه المحطات الادائية بجدارة واقتدار وقد فعلها مرارا محمود مرسي.
قلة الادوار لم يكن قرار اتخذه محمود مرسي لكن طبيعة الادوار لم تكن جيدة لذلك صرح في احدي حواراتها لقليلة « انه قاطع السينما لأنه لم يجد السيناريو الذي يرضيه والقصة التي تشبعه, لا أدري سببا لهذا الطوفان من التفاهة في السينما والمسرح والتليفزيون، الملايين تنفق على أعمال تافهة، وقد عُرضت عليّ عشرات السيناريوهات لمسلسلات تليفزيونية بعد مسلسل لما التعلب فات، ورفضتها لأنها تافهة والأدوار هامشية».
الوحدة ودراسة الفلسفة وعمله بالاخراج وقراءاته الواسعة كانت مكونات حقيقية واصيلة لفنان كبير نذر حياته للفن واستطاع ان يتصدى لكل العقبات التي صادفته منذ طفولته ليحفر له اسما وبصمة على الساحة الفنية رغم قلة الاعمال التي قدمها خلال مشواره الفني، عندما جسد دور السيد احمد عبد الجواد في ثلاثية نجوم محفوظ للدراما التليفزيونية, صرح بأنه ما كان عليه أن يؤدي هذه الشخصية بعد اداء يحيي شاهين, واضاف بأنه خسر امامه لان شاهين تفوق عليه, لأن الشخصية ذهبت إلي يحيي شاهين, بينما أنا ذهبت للدور”.
رغم أن محمود مرسي كانت أعماله قليلة .. إلا أنها ذات قيمة كبيرة جدا وراقية، فهو يجيد اختيار أدواره التي تحمل قدرا كبيرا من الجدل والاهمية، فقد كان حريص أن يناقش قضايا شائكة ومعقدة، لم يستسهل الأداء، بل يصارع دائما من أجل الوصول إلي أفضل النتائج الممكنة ليترجمها علي الشاشة، فيرضي، وترضي جماهيره التي تنتظر منه الجديد.
قلما نجد فنانا يملك تلك الكاريزما التي تمتع بها الفنان الكبير محمود مرسي، والتي اجاد تطويعها لخدمة فنه ورسالته. فكثيرون احتلوا في قلوب المشاهدين مكانات مرموقة، لكنه كسر الاستثناء واحتل مكانة خاصة به.. نزعم أنه لم ينلها غيره. وقد ساعدت علي تحصينه من أية إغراءات أو إسقاطات.
اكتمل نضوجه الفني مبكرا .. وكان فارسا من البداية وحتي النهاية، لم يحتل المقاعد الخلفية بل كان دوما في الصفوف الأولي..لم تكن الاضواء تجذبه، ولم تطله الشائعات أو الأكاذيب، فقد كان -رحمه الله- يعزف عن اللقاءات الصحفية والتليفزيونية، يهتم بعمله فقط، ليس لديه أخبار خاصة أو عامة.. ولم يكن من شغوفي الظهور بمناسبة ودون مناسبة.. كانت لديه رسالة لم يحيد عنها.. فقد كان الحاضر باعماله المتميزة الراقية والجيدة.. وكان الغائب عن الموالد والمهرجانات والموائد..
كان رحمه الله معتزا بنفسه وبفنه، محبوبا من جماهيره وزملائه.. ملتزما، خلوقا.. متواضعا، لكنه كان لديه كبرياء وعزة نفس، ورغم جديته ووقاره الشديدين، كان يشيع الحب والمرح بين زملائه في العمل..
يملك قدراً كبيراً من التلقائية والمعايشة.. حضورا طاغيا يفوق الحدود المتعارف عليها، خارج التصنيف الشكلي أو الادائي، واثق من إمكاناته وأدواته.. منطلقا في إبداعه وتميزه.. لديه أسلوب خاص به لا يزيد أو ينقص، ولا يتكلف، شجرة عفية تطرح في كل المواسم ثمارا ناضجة طازجة لا تعطب بمرور الوقت…
محارب شجاع لا يتخاذل أو يهرب من موقعه.. يدافع لآخر نفس، لآخر طلقة رصاص مثلما كان «الشاويش محمد» في «أغنية علي الممر»، وهذا الدفء الأبوي الذي كان يلف به جنوده وهم معزولون محاصرون، ونظراته التي كان يوزعها عليهم وتري فيها الانكسار والمقاومة، والقوة والضعف.. فعندما يصرخ في وجوههم تري نظرات الحنان والاحتواء ترتسم في عينيه .. عندما يضحك تدرك علي الفور أنها ضحكة صافية تخرج من قلبه.. وعندما يبكي لا تستطيع التماسك فتجهش معه بالبكاء.. إنه حالة واقعية غير مزوقة أو مضاف إليها مشهيات.. سنبلة قمح من حقول بلادنا..
يفرض وصايته وشروطه فتقبلها وانت راض..فنان غير قابل للاستسلام أو الكسر.. صلب .. عفي ورقيق ودافئ.. فهو يجمع تناقضات كثيرة لا يستطيع أحد اختراقها أو تجاوزها.
إنه واحد من جيل الرواد.. من جيل الكبار .. الذين تركوا بصماتهم الكبيرة علي الساحة.. مثلما تركوا تلاميذ ومريدين يسيرون علي الدرب وينهلون منه فيجيدون ويتميزون، ويضيفون في مدرسة السهل الممتنع. فقد كان يملك مقومات عالمية سخرها بامتياز لخدمة شخوصه التي عزفها طيلة عمره الفني، لقد كان عملاقا شديد التميز والنقاء.. رحمه الله رحمة واسعة وعوضنا عنه خيرا..
رحل محمود مرسي في يوم 24-4 بينما كانت ليلته الاخيرة 23-4 يصور عمله الاخير “وهج الصيف” الذي لم يكتمل, ظل يمارس عمله حتي قبل ثلاث ساعات من رحيله، ولأن الفعل ينطبق علي القول فقد اوصي الزاهد محمود مرسي أن يدفن بمقابر الاسرة بالمنارة شرق الاسكندرية دون ضجيج اعلامي.. حيث عاش حياته زاهدا في الشهرة وأضوء النجومية، ولا نجد ختام لهذه المسيرة العظيمة سوي كلماته.. “الآن، عندما أنظر الى مشواري الفني، أشعر بالسعادة بسبب الاعمال الكثيرة الهابطة التي رفضت الاشتراك فيها بلا تردد. احترمت جمهوري ولم ابتذل نفسي ولم أستهن بزملائي. ربما اجد نفسي غير راضٍ عن بعض اعمال ولكن ليس هناك ما أخجل منه…”.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.