"جبرتي العصر الحديث، المشاغب، صاحب الطريقة، شيخ القصة الصحفية"… كلها ألقابه، وغيرها الكثير من الألقاب التي أطلقها عليه تلامذته ومحبوه فى بلاط صاحبة الجلالة. أمسك بقلمه وسطر الحكايات بدفتر الوطن فأخرج لنا خلاصة إبداعه فى : "حكايات من دفتر الوطن"، و"تباريح جريح"، و"رجال ريا وسكينة". هو الكاتب الكبير، والقاص المبدع، والمعتقل السياسي فى عصري عبدالناصر والسادات؛ صلاح عيسى… "من رحم المعاناة يولد الأمل"… فى أسرة ريفية متوسطة الحال بقرية "بشلا" بالدقهلية، ولُد صلاح عيسى فى الرابع عشر من أكتوبر عام 1939م. اهتم "عيسى" فى طفولته بقراءة الكتب والروايات التي شجعه عليها والده، وأحب كتابة القصة القصيرة، ومع دخوله عامه العاشر باتت الأسرة على حافة الهاوية إثر أزمة اقتصادية لحقت بها، لكنها من ناحية أخرى كانت لها الفضل فى أن يُصبح الطفل بعد سنوات من أهم المؤرخين للحالة الاجتماعية والسياسية فى مصر. حصل "عيسى" على بكالوريوس الخدمة الاجتماعية عام 1961، والتحق بوظيفة فى وزارة الشئون الاجتماعية، ثم انخرط فى العمل السياسي، وانضم لمنظمة يسارية، اعتقل على إثرها، وفصل من العمل، وتوقف عن الكتابة فى مجلة "الحرية"، ويقول عن هذه التجربة : "السجن تجربة جميلة. فيها أنتجت أول مجموعة قصصية. تمنيت لو أن الحكومة تعتقلني كل عام شهراً ونصف للتأمل، والتفكير فى الكتابة أكثر". "جئت إلى الدنيا لكي أعترض".. هي جملة الروائي الروسي الشهير مكسيم جوركي، والتي ربما أعتز بها "عيسى" وفسرت حاله، وجدوى وجوده بالحياة، فعلقها فى صورة على مكتبه بجريدة "القاهرة". وظل على يسار السلطة معارضا أبديا طوال مسيرته الصحفية، فكانت الفئات الشعبية والفقيرة محور كتاباته، وأعتقل لأول مرة بسبب آرائه السياسية عام 1966 وتكرر اعتقاله فى عدة سنوات ما بين 1968 و1981 وفصل من عمله الصحفى فى العديد من الصحف والمجلات المصرية والعربية. صعد "السادات" إلى السلطة، ومعه خرج "عيسى" من السجن ليمارس دوره فى الدفاع عن المظلومين والمهمشين، فكتب مقالات فى صحيفة "الجمهورية"، لكنه سرعان ما مُنع من الكتابة، لمعارضته سياسات السادات، فعاد للمعتقل مع انتفاضة يناير 1977، ثم اعتقالات سبتمبر، مع عشرات المثقفين عام 1981، احتجاجاً على اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، وبعد خروجه تولى صحيفة "الأهالي" عام 1982م.. أسس "عيسى" وشارك فى تأسيس وإدارة تحرير عدد من الصحف والمجلات خلال مشواره الكبير، من بينها "الكتاب" و"الثقافة الوطنية" و"الأهالي" و"اليسار" و"الصحفيون"، لتكون جريدة "القاهرة" آخر محطاته فى رئاسة التحرير، و ترأس تحرير العديد من الصحف وانتخب عدة دورات متتالية بمجلس نقابة الصحفيين كما شغل منصب أمين عام المجلس الأعلي للصحافة أكثر من مرة، وله مواقف نقابية معروفة دفاعا عن المهنة والنقابة منها موقفة فى التصدي للقانون رقم 93 لسنة 1995. "صاحب الطريقة".. هو صلاح عيسى، الذي أخرج لنا كتابات عدة شاهدة على إبداعه وبراعته، فتحدث خلالها عن حوادث متنوعة فى تاريخ مصر، حتى أصبح أحد أهم المؤرخين فى السنوات الأخيرة. ففى كتابه "مثقفون وعسكر" حلل وضع المثقفين فى عهد جمال عبدالناصر، مستنداً لوثائق ومعلومات بعيدة عن خيالات وأوهام المصريين، كما تحدث عن تجربة ريا وسكينة فى كتابه "رجال ريا وسكينة"، أما عن رائعته "حكايات من دفتر الوطن"، فقد تناول حوادث متفرقة من تاريخ مصر بأسلوب ممُتع وجذاب ركزّ فيه على الجانب الشعبي من كل حكاية. لم يتوقف المايسترو "صلاح عيسى" عن العزف بقلمه طوال حياته، فأخرج لنا أيضا كتابه الشهير "شخصيات لها العجب" وتحدث فيه عن شخصيات لعبت دوراً بارزاً فى الحياة السياسية والثقافية والصحفية فى القرنين العشرين والحادي والعشرين. واستمر بعد ذلك فى توثيق كل ما يكتبه، فأخرج "شاعر تكدير الأمن العام"، و"تباريح جريح"، وغيرها من المؤلفات الهامة القيمة.. "لم يمت مَن له أثر".. قالها الشاعر الكبير أحمد شوقي، وها هو صلاح عيسى يترك لنا الكثير من الآثار الشاهدة على إبداعه، وقد ترك قرابة 20 كتاباً فى التاريخ والفكر السياسي والاجتماعي والأدب، إضافة الى العديد من المقالات. وتوفى يوم الاثنين الموافق 25 من ديسمبر 2017، بعد صراع مع المرض.