وصف د.عبد المحمود أبو إبراهيم- أمين عام هيئة شئون الأنصار. رئيس المنتدي العالمي للوسطية بالسودان - رافعي الشعارات الدينية وخصوصا دعاة رفع المصاحف في 28 نوفمبر الجاري بأنهم أبعد الناس عن الشرع والالتزام بقيمه ومبادئه. وأنهم يقولون ما لا يفعلون. داعيا إياهم بالرفق بأنفسهم وبالناس. فالشريعة ليست شعارات ولا حدودا وعقوبات. وإنما هي منهج حياة. أكد أن التطرف والإرهاب وليد ثالوث الجهل والفقر والمرض. وأن تجفيف منابعه يبدأ بالإصلاح التعليمي والسياسي. مشيرا إلي أن الانفلات الأخلاقي الذي واكب ثورات الربيع العربي وما قبلها ليس أمرا متأصّلا في مجتمعاتنا وإنما هو ظاهرة عَرَضية وليدة الكبت في العصور الشمولية وكافة مؤسسات ومنظمات المجتمع مسئولة عن علاجها بالتزامن مع المسار العقابي. وفيما يلي نص الحوار الذي أُجري معه خلال زيارته للقاهرة مؤخرا: * ماهي الوسطية التي يعنيها الدين الإسلامي ؟ ** الوسطية تعني السماحة والاعتدال في التكليف وترك المغالاة في الدين والتعمّق فيه. وهي منهج يُمكّن المسلم من فهم الأمور فهما صحيحا. ومن ثمَّ يتعامل معها بوعي. ففي مجال العقيدة يحقق وحدانية الخالق. وفي مجال العبادة يراعي مقاصدها الاجتماعية. ويدرك أن الأخلاق أن تُعامل الناس كما تحب أن يعاملوك. ومنهج الوسطية يجعل المرء ينظر إلي الأمور بتوازن ووعي وتكامل . إن معالم الوسطية تتمثل في الآتي.. أولا: الالتزام بالتيسير في الفتوي والتبشير في الدعوة. فالأخذ بالرخص. ومراعاة الضرورات. واستصحاب الواقع والعرف من الأمور التي ينبغي أن تراعي في الفتوي. ومعرفة المكوّنات الفكرية والخلفيات الثقافية واختيار المداخل المناسبة تطبيق لمبدأ الحكمة المطلوب في الدعوة» قال تعالي : ¢ ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ¢ . ثانيا : الجمع بين الأصالة والمعاصرة » فالوسطية تلتزم بالأصالة كمرجعية ولا تهمل المعاصرة كفضاء للتطبيق. ثالثا: التوفيق بين علم الشريعة المتمثّل في الأحكام الشرعية الخمسة وبين علم التزكية الذي يخاطب الوجدان ليرتقي بالإنسان إلي مرحلة التذوق الإيماني. رابعا: التوفيق بين ظواهر النصوص وقراءة ما وراء النصوص من معاني تُستنبط بالتأمل والتدبر والتفكر. خامسا: التمييز بين الثوابت والمتغيرات» فالأحكام الشرعية تنقسم إلي أصول أحكامها ثابتة تتمثل في العقائد والعبادات وأصول الأخلاق. وفروع ووسائل أحكامها معللة وتتغير بتغير العلل. سادسا: مراعاة الواقع. فالتعاليم الإسلامية لا تُطبق في فراغ وإنما يقوم بتطبيقها الإنسان بكل خصائصه وفي واقع تختلف طبيعته من بيئة لأخري. لذلك فمنهج الوسطية يراعي الواقع ويزاوج بينه وبين الواجب علي أساس قوله صلي الله عليه وسلم للسيدة عائشة رضي الله عنها: ¢ لو? أن قومك حديثو عهد بالإسلام لهدمت الكعبة وبنيتها علي قواعد ابراهيم ¢ مراعاة للواقع. سابعا : مراعاة الضرورات. فالإنسان مخلوق من طين وفيه قبس من روح الله . ومن خصائصه العقل والحرية والإرادة والوجدان » وهذه لديها مطالب ضرورية لتحقيق إنسانية الإنسان وتمكينه من تحقيق وظيفة الاستخلاف التي خُلق للقيام بها. قال تعالي : ¢ فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف¢ فالحاجات الضرورية دعا الإسلام إلي توفيرها وصيانتها وليس هنالك أمرا ضروريا للإنسان حرّمه الإسلام وإنما وضع ضوابط شرعية لإشباعها محافظة علي النظام العام للمجتمع البشري. ثامنا: مراعاة الشوري والحرية. فالحرية من أهم خصائص الإنسان ولذلك حرّم الإسلام الإكراه علي الدين وهي شرط لممارسة الشوري التي تضبط النظام الاجتماعي. وعليه فإن الوسطية تولي اهتماما كبيرا لصيانة الحرية تحقيقا لكرامة الإنسان وتمكينا له من ممارسة الشوري. تاسعا: انصاف المرأة وإشراكها في كل الأعمال التي تلائم طبيعتها فهي تُمثّل الشق الآخر للإنسان وهي مخاطبة كالرجل لتحقيق وظيفة الاستخلاف بكل تجلياتها تقسيما للأدوار وإقامة لرسالة الإنسان في الكون. عاشرا التسامح مع الآخر والعمل علي صيانة العيش المشترك بين مكوّنات المجتمع المتنوعة دينيا وثقافيا. فالتعدد إرادة إلهية وضرورة اجتماعية وواقع كوني. مقياس الوسطية * إلي أي مقياس نرجع حيال ادعاء كل طرف بأنه الوسطي؟ ** باستيعاب المعالم السابقة تتضح المعايير التي بموجبها يصح الحكم علي كل من يدعي الوسطية. هل هو صادق أم يخالف قوله الواقع؟ فالوسطية منهج يقوم علي العدل والتوازن والتكامل فمن يلتزم بهذا المنهج فهو وسطي فردا كان أم جماعة أم تنظيما وإلا فلا. منابع الإرهاب * ابتليت مجتمعاتنا المعاصرة بالكثير من التطرف والتشدد أو التسيب والتفريط ...كيف نحقق التوازن دون إفراط أو تفريط؟ ** التوازن يتحقق بالفهم الصحيح للإسلام . وترسيخ مبادئه عن طريق المناهج التربوية والتعليمية. وكذلك بتجفيف منابعه ومغذياته الاجتماعية والفكرية ومعالجة ظاهرة الفقر والأمية والتخلف ويتم كل ذلك عبر تحقيق الإصلاح السياسي الذي يهيمن علي كل المظاهر الأخري. والفهم الصحيح للإسلام هو العاصم من الانحراف عن الصراط المستقيم. وهنا يكون دور العلماء قال صلي الله عليه وسلم :¢ يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين¢. خوارج العصر * ظهرت فئات من أدعياء الدين تنادي بدعاوي رفع المصاحف. في إشارة إلي أنهم دعاة إلي الشريعة. فماذا تقول لهؤلاء ؟ ** الدين التزام قبل الدعوة» وسلوك قبل الشعار. وإصلاح الباطن قبل الظاهر. فالذي يدعو لأي أمر إن لم يكن ملتزما به في نفسه فلن يكون له أي أثر علي الواقع. فمُعلِّم نفسَه ومؤدّبها خير من مُعلّم الناس ومؤدّبهم. وثبت بالتجربة أن أكثر الناس ترويجا للشعارات من أقلهم التزاما بها. قال تعالي : ¢يا أيها الذين آمنوا لِم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون¢. وأقول لرافعي الشعارات دون التزام: أرفقوا بأنفسكم وبالناس. فالشريعة ليست شعارات ولا حدودا وعقوبات. وإنما هي منهج حياة. وبهذا الفهم أقول لهؤلاء: إن الشريعة ليست غائبة. فنحن نتزوج وفق أحكام الشريعة ونمارس كل شئون حياتنا وفق أحكامها وحتي الممات. وأعني بذلك النظام العام لمجتمع المسلمين وحتي الدول. ولا ينفي هذا وجود بعض المخالفات الفردية والجماعية ولكنها مقارنة مع الغالبية فهي مخالفات قليلة. وعليه فإن الشعار الصحيح هو: توسيع قاعدة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية لتشمل الجوانب التي لم تُطبّق فيها ولكن بالتدرّج ومراعاة الواقع. الانفلات الأخلاقي * شهدت مجتمعاتنا في الفترة الأخيرة أنواعا من الانفلات الأخلاقي خصوصا عقب ما عُرف بالربيع العربي.. كيف نواجه مثل هذا الانفلات بالوسطية الدينية؟ ** هذا شيء طبيعي» فالانفلات تعبير عن حالة الكبت التي كانت تعيشها الشعوب في ظل أنظمة مستبدة. وهذا يوضح أن النظم الشمولية تهتم بالأعراض ولا تعالج الجذور. بل هي تغطي عليها حتي تتراكم فتنفجر بمجرد ما تجد مساحة فيها قدر من الحرية. وهي ظاهرة عرضية وليست أمرا متجذِّرا في بنية المجتمعات. وعلاجها يحتاج إلي عمل متكامل يُحلّل الظاهرة ويُشخّصها ويُحدّد أسبابها والعوامل التي تغذيها. ومن ثمّ تتكامل عدة جهات لمواجهاتها. أهمها توفير الحاجات الضرورية للإنسان وبسط الحرية مع ردع المنفلتين بقوة القانون وتهيئة البيئة الصالحة لترسيخ المفاهيم الصحيحة ومنها تشجيع مؤسسات المجتمع المدني للانتشار في كافة المجالات. المواءمة والاستنباط * من أسس المنتدي. المواءمة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر.. فكيف يكون ذلك؟ ** سبق أن ذكرت. أن أحكام الشرع تنقسم إلي ثوابت ومتغيرات. فالملاءمة هنا تكون بعدم إسقاط الأحكام الثابتة علي المتغيرات ولا العكس. والمتغيرات هي معبر تواصل مع الآخر لأنها من المشترك الإنساني. * وكذلك من مهامكم. توضيح النصوص الجزئية للقرآن والسنة في ضوء مقاصدها الكلية. فكيف يتم ذلك؟ ** الإسلام دين خاتم جمع أصول الرسالات السابقة ومن شروط صلاحيته للتطبيق استجابته لمتطلبات ومستجدات الحياة. ومنذ عصر التنزيل مرورا بكل الحقب. اهتم الفقهاء بإبراز مقاصد التشريع حتي أن العز بن عبد السلام قال: كل تصرّف أدي إلي خلاف مقصود فهو باطل. واجتهادات عمر بن الخطاب تؤكد ذلك. فمنعه سهم المؤلفة قلوبهم وعدم تقسيمه لأراضي العراق واتخاذه للدواوين كل ذلك يندرج في بند قراءة النصوص الجزيئة في ضوء المقاصد الكلية. وفي عصر الانفتاح والعولمة وتدفّق المعلومات وتقارب الزمان والمكان صار إبراز هذا المنهج من ضرورات العصر. الفهم المتكامل * وكيف تحققون الفهم المتكامل للإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقا؟ ** القراءات التبعيضية رفضها الإسلام قال تعالي : ¢أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض¢ وقال تعالي : ¢إنا كفيناك المستهزئين الذين جعلوا القرآن عِضِين¢ فالقراءة المتكاملة للإسلام هي التي تُحقّق رسالته وتوجيهات الرسول صلي الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل عندما بعثه إلي اليمن تؤكد ذلك. حيث أمره بدعوة الناس للتوحيد وبعد الاستجابة يدعوهم للعبادة. وهكذا حتي يكتمل الدين بكل جوانبه. فمنهج الوسطية يقدم خطابا إسلاميا شاملا للعقيدة والعبادة والمعاملة والأخلاق لإيجاد الشخصية الرسالية التي تُجسّد تعاليم الإسلام في واقع الحياة. تجديد الفكر * كثر الحديث عن الدعوة لتجديد الفكر الاسلامي ثقافة وسلوكا.. من وجهة نظركم كيف يتحقق ذلك؟ ** الفكر الإسلامي هو تفاعل بين النصوص والواقع. والإسلام دعا لهذا التفاعل. فالقرآن كتاب مقروء والكون كتاب منظور. ومطلوب من المسلم قراءة الكتابين ليفهم مقصد الله من قصة الخلق ورسالة الاستخلاف. فتجديد الفكر الإسلامي هو تفاعل بين الإسلام والواقع عبر العصور. ولكل عصر مفكروه ومجدّدوه. والتجديد هو تجديد التديّن لا تجديد الدين. وتجديد القراءة للنصوص وفق متطلبات العصر لتحقيق التصالح بين الدين والحياة.