يقول الله تعالي : "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَي وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً" النساء: 36 . لن تستطيع المناهج الأرضية مهما أوتيت من قوة وهيمنة أن تغير ما بالإنسان أو تعدل سلوكياته وأخلاقياته» لأنها قوانين متغيرة ونسبية وسطحية لا علاقة لها بأغوار النفس البشرية التي لا يعلم أسرارها سوي خالقها سبحانه وهو الذي أنزل كتابه الخالد متضمنا المنهج السوي الذي يزكي النفس ويرفعها إلي أعلي درجة من السمو والرفعة» كي تصبح نفساً مطمئنة. وذلك بأسلوب راق يحرك القلب والعقل تجاه الفضيلة والتعاون والمودة. وهذا ما أكدته الآيات الواردة في سورة النساء. ففي تدبرنا لتوجيهات رب العالمين فيها نجد بعض آياتها تصوغ الشخصية المسلمة صياغة منهجية تستهدف إلقاء الضوء الكاشف لمعالم الطريق المستقيم بعيداً عن سبل الشيطان. فهي أولاً تبدأ بعشر وصايا ترقق النفس وتسمو بالروح وتقتل الأنانية وتنمي الشعور بالمسئولية تجاه الخالق الوهاب وتجاه المجتمع بكل فئاته إحساناً وبراً وتعاوناً ووداً وإحساساً بالمحاويج وعطفاً علي المساكين. وفي هذا الإطار تأتي الأوامر والوصايا متمثلة في عشرة تكليفات. أولها: عبادة الله وطاعته وإفراده بتلك العبادة والطاعة فكل من عداه مخلوق ومقهور وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ الأنعام:18. ثانيها: الإحسان إلي الوالدين اللذين جعلهما الله وسيلة وسبباً لوجود المولود. ومن اللافت للنظر أن أسلوب القرآن الكريم كثيراً ما يقرن الأمر بعبادته بالبر بالوالدين فنجده يؤكد ما جاء في هذه الآية في موضع آخر فيقول: وَقَضَي رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً الإسراء:23 ويقول: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً الأنعام:151 ونراه يقرن طلب شكر نعمته بشكر الوالدين فيقول: أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ لقمان:14 وتسير وصايا خاتم النبيين في هذا المسار فيجعل النبي صلي الله عليه وسلم بر الوالدين مقدما علي الجهاد في سبيل الله فيجيب عمن سأل عن أفضل الأعمال بأنها: ¢الصلاة لوقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله¢ والبر بهما طاعة لله وعقوقهما كبيرة. ويتعدي هذا البر إلي ذوي القربي واليتامي والمساكين والجار القريب والبعيد المسلم وغير المسلم المسالم. والصاحب والزميل والقرين وابن السبيل والخادم والأجير.وبهذا يمتد إحسان المؤمن إلي كل الشرائح المحيطة بالإنسان مما يشيع جواً من الحب والإيثار والتكافل والتعاطف مما يسهم في جعل الأمة كلها كالجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الأعضاء بالحمي والسهر. وتأتي الخطوة الثانية في المنهج الرباني لتربية الإنسان السوي بتنفيره من الرذائل المؤدية إلي التباغض والتنافر. ويذكر منها في هذا الإطار الخيلاء والكبر والفخر بما أوتي من نعم. والبخل والحرص الداعي إلي منع الخير عن الناس والمؤدي إلي الأنانية والانعزال والسلبية وإخفاء ما أنعم الله عليه بل ودعوته غيره إلي سلوك طريقه في البخل تحسبا من مفاجآت المستقبل فهم الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ النساء:37 وكل ذلك كفر بالنعمة وبعد عن التوكل علي الله وشك في قدرة الله علي رزقه في المستقبل بأضعاف ما يبذله في الحاضر. والغريب عند هذا الصنف من الناس أنهم مع بخلهم وامتناعهم عن الإنفاق في طرق الخير نجدهم من المسرفين والمبذرين في المظاهر الكاذبة التي يراءون بها الناس!! فإذا مات له قريب أتي بالفراشات ومكبرات الصوت والمشاهير من القراء فيصرف في ذلك ببذخ وسفه. لا إكراما للمتوفي ولكن للتفاخر!! فإذا طلبت منه عشر ما ينفقه في ذلك ليسهم به في إطعام جائع أو كفالة يتيم أو بناء مسجد نراه يتمسكن ويعتذر فهؤلاء وصفهم القرآن بقوله: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً النساء:38 إن هؤلاء لا يثقون في إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةي وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً النساء:40. وبعد أن تهيأ الباطن للتخلق بتلك الفضائل والبعد عن هذه الرذائل تتجه الوصايا إلي ضرورة أن يكون الظاهر كالباطن طهارة ووقاية» فحين يتهيأ الإنسان للقاء ربه في الصلاة لابد أن يكون يقظاً مستحضراً لما يقوله خاشعاً متبتلاً وإلا كان فاقد الوعي كالسكران! وأن ينظف جسده وملبسه وموضع صلاته فإن كان جنبا فليغتسل وإن كان محدثاً فليتوضأ وفي الغسل والوضوء إزالة للميكروبات والفيروسات ووقاية من الأمراض والأوبئة ونظافة وجمال دائم» فالصلاة كما هو معلوم بالضرورة تتكرر في كل يوم كالنهر بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات فهل يبقي علي جسده من درن إنها تزيل القذر وتكفر الذنوب معاً.. فإذا بحث المؤمن عن الماء فلم يجده لجأ إلي التراب يستبيح به الصلاة للضرورة فيمسح وجهه ويديه وذلك تخفيف من الله ورحمة. ومع هذه المراحل التربوية يأتي التحذير والتحصين ضد محاولات أهل الكتاب لفتنة المؤمن عن دينه وإخراجه من الالتزام بأوامر الله فهم يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ النساء:44 وهم أعدي أعدائكم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ النساء:45 مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعي وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ النساء:46. إنهم اليهود إذن فهم المحرفون والمزيفون للوحي وهم الطاعنون في دين الله وهم المعاندون لرسل الله فلا يستحقون إلا التهديد والنداء الأخير من رب العزة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَي أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً النساء:47 ومع التهديد يفتح لهم باب التوبة إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ النساء:48 إنهم يزكون أنفسهم ويقولون نحن شعب الله المختار ونحن أبناء الله وأحباؤه» افتراء علي الله وكفي به إثماً مبيناً وهم في سبيل حقدهم وحسدهم للمؤمنين يتعاونون مع المشركين وعباد البقر والنار فيقولون لهم أنتم أَهْدَي مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً النساء:51 إن هؤلاء لا جزاء لهم إلا ما أعده الله لهم سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ النساء:56 أما المؤمنون فهم خالدون في جنات لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجى مُطَهَّرَةى وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً النساء:57.