إنه ليزداد عندنا الإعجاب والإكبار حين نلجأ إلي القصص القرآني فنجده خير شاهد علي تعانق المتعة مع الفائدة.. نمط فريد. ونوع ممتاز.. ذلك النسق القصصي في القرآن الكريم.. فريد في نسجه. فريد في غايته وهدفه. فريد في تصويره لواقع التاريخ. فريد في المدي البعيد لتأثيره علي المسلمين. فريد في تصويره لواقع التاريخ. فريد في المدي البعيد لتأثيره علي المسلمين. فريد في التربية بكل كلمة . وبكل لفظة. وبكل حرف .. ليس ذلك تحيزًا ولا تعصبًا.. ولكنها الحقيقة الواضحة. والاستقراء الواعي لما يُلقي علي الأسماع. ولطالما أنس الإنسان باستماعه إلي أخبار الأولين.. حبًا منه لاستطلاع سر هذا الوجود الغامض. إذ إنه لا يستطيع أن يحقق كل ما يريد من آمال. ولا يستطيع ان يستشف من داخل نفسه ماذا سيحدث له في المستقبل.. ولكَمْ رأي إخوة في الإنسانية ساروا في درب الحياة لا ينقصهم الذكاء ولا الطاقات . وإذا أقدامهم تضل الطريق. وعاد إلي من يحيط بهم يتساءل عن سبب هذا الفشل .. وظل يستمتع بالإصغاء إلي القصص تحكي علي مسامعه الأحداث والمفاجآت.. وإذا هو يسمع من أغوار نفسه صوت الواقع: أليس هذا الذي حدثت له تلك المخاطر بشرًا مثلما نحن بشر؟ أليس هذا نذيرًا وتحذيرًا؟ لكنه يطمئن من حيرته وهلعه باحتمال أسباب خفية أدت بهؤلاء إلي الأخطار.. وهذه الأسباب لا يدركها الرواة ولا القصاصون. لأنهم لا يملكون سوي الوصف الظاهري الملموس.. وهنا يحس هو أيضًا أنه أصابه الفشل في الوصول إلي سر ما يجري من أحداث.. ولكنه لا يجد متنفسًا له سوي أن يسمع ما يروي محاولاً أن يتخذ مما تطمئن إليه نفسه مقياسًا لحياته وتصرفاته. ومن هنا حرص المرء منذ القدم أن يصيخ إلي القصة والرواية والتمثيلية. وبمقدار ما فيها من إثارة وحركة وحيوية تجعله يتفاعل مع الأحداث. وتنقله إلي الجو الذي حدثت فيه. يكون أنسه إليها وإعجابه بها. وإن في تاريخ كل لغة قصصًا وحكايات تدور علي ألسنة المتحدثين بها. وتحمل لهم غرائب ما حدث للسابقين .. وفي لغتنا العربية في العصر الجاهلي ثروة من هذه القصص طمست معالمها أمية العرب. وعدم اعتنائهم بتسجيل ذلك التراث. ولم يبق منها سوي رموز إليها تسمي بالأمثال أدركنا أنها ما هي إلا عناوين فقط لقصص شاعت وذاعت في محيط العرب الأولين. متمثلة في مضارب هذه الأمثال. وجاء القرآن الكريم يقص أنباء السابقين. علي غير ما ألفوا من القصص . فالتف حوله العرب يعتذون منه المتعة الفنية. والعبرة السلوكية. وإزاء هذا الإعجاب والالتفاف من العرب حول القصة القرآنية حدثت محاولة من الحاقدين لصرف الناس عن هذا القصص. فانطلق النضر ابن الحارث يتلقي قصصًا فارسية ويجلس إلي القوم يحدثهم عن ¢رستم¢ وعن ¢اسفنديار¢ ويصف لهم ما لدي الفرس من خرافات.. ولكن هذه المحاولة نفسها كانت في صالح القصة القرآنية إذ كانت فرصة للموازنة والمقارنة عند السامعين . وإذا هم يدركون الفرق الشاسع والبون العريض بين العجز والإعجاز . بين الأرض والسماء. ذلك أن حقيقة هامة قد تغيب عن الأذهان في إدراك سر هذا الإعجاب من العرب.. تلك هي أن الحكم علي الشئ بأنه رائع أو فاتر يعود إلي وسائل التأثير في المخاطبين.. فالسامع يحس حين يهتز قلبه لما يسمع بأن هناك قوة جبارة خرقت حجب قلبه. واكتشفت موطن الإثارة فيه. فحركته كما تشاء. فاستحال إلي معجب بتلك البلاغة الآسرة التي نفذ شعاعها إلي مشاعره. وبلغ سحرها إلي فؤاده.. ومن هنا يخضع الإنسان لهذا العمل الفني ويسميه بلاغة ويسمي صاحبه بليغًا .. هذه الحقيقة تساعدنا علي أن نفهم كيف كان القرآن معجزًا للبشر.. وللبشر جميعًا .. حيث إن حلاوته قد سلكت طريقها إلي كل قلب . وانشرح لها كل صدر حتي صدور أعدائه ومعانديه الذين دلفوا في الظلام إليه . لأنه يعلو ولا يعلي عليه. والقضية سهلة ومعقولة.. فالذي أنزله هو الذي يعلم مدي وقع الكلمة علي القلب لأنه وحده يعلم تفاصيل هذا القلب فهو الذي خلقه. وهو الذي أودع فيه مشاعره وإحساساتهپ "أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ" "سورة: الملك - الأية: 14"؟ ومن هنا يتمتع القارئ والسامع لكتاب الله في أي جيل من الأجيال دون أن يعرف كل الأسرار لما يسمع من آيات . وستظل كل آية منه تحمل شحنة قوية إلي كل العصور.. ولن تنتهي قوتها . ولن ينقص حجمها ما دامت حياة البشر لأن في زواياها طاقة تسع كل الأجيال.. وبهذا لن يستنفد القرآن أغراضه وسيبقي بكرًا إلي أن يأذن الله للدنيا بالفناء. قد يكون ذلك وحده مبررًا كافيًا لإدراك الحقيقة التي صدرنا بها هذا المقال وهي أن القصة في القرآن نمط فريد ونوع ممتاز. ولكن ماذا يكون الموقف لو علمنا أيضًا أن هذه القصة هي أول قصة في لغتنا العربية عرفت ¢ الالتزام¢ وحددت رسالة الأدب بمعناه الإنساني الرفيع ووظيفته الاجتماعية الرائدة. فلم تسف القصة فيه إلي درك شهواني. أو إلي إثارة الغرائز الرخيصة. أو إلي تسلية الوقت وقتل الفراغ كما هو حادث الآن في قصصنا الذائع. وكما كان موجودًا قبل عهد النبوة وفيما نقله النضر من قصص فارس وخرافاتها. إن بعض الباحثين اليوم ينكرون للقصة غاية خاصة لأن التزام فكرة معينة يؤدي إلي إقحام كل ما من شأنه أن يساعد لي إبرازها دون أن يهمه ما إذا كان له دخل في نسج القصة أو لا . فينقلب القصاص إلي داعية. ولنا مع هذا الفريق نقاش: هل يقصد بذلك ألا يتخلي الكاتب عن فنه في سبيل هدفه وفكرته؟ إذا كان هذا هو المراد فإننا نعضد ما يقول.. أم يقصد أن يتخلي الكاتب عن هدفه من أجل فنه بحجة أن الفن يجب أن يكون هدفه لذاته من حيث المتعة والجمال فقط؟ إن كان ذلك هو المقصود فهي دعوة إلي استخدام الفن في هدم المجتمع.. بل ودعوة إلي هدم قيمة الفن ذاتها في المجتمع .. فليس هدف الفن أن يمتع فقط.. ولكن ¢ المتعة والفائدة معًا¢ وبذلك يتسامي الفن وتكون له رسالة تحميه من الضياع. وقد ناقشت هذه النظرية كاتبة بلجيكية في ¢فسيولوجية القصة¢ تسمي ¢ نيللي كورم¢ قالت: ¢ لئن كان يقال: إن القصة لا غاية لها إلا هي بذاتها أي أن قانون كينونتها الأساسي جمالي محض..فهذا لا ينفي أن معظم القراء يبحثون فيها عن معني فلسفي أو علي الأقل خبرة أخلاقية¢. ومن المؤسف والغريب معًا أن نسمع ونري نماذج من القصص التي تقتل العمر بلا فائدة . ويقبل عليها بعض الشباب بنهم يرضي عندهم النوازع الخسيسة. والدوافع الرخيصة علي حين نري أن الوجودية وغيرها من المبادئ الهدامة تلقن مذاهبا بوسيلة القصص عن طريق الإيحاء النفسي الذي يتأثر به القارئ من جو القصة ومناقشاتها ومن الروح المسيطرة عليها. وإنه ليزداد عندنا الإعجاب والإكبار حين نلجأ إلي القصص القرآن فنجده خير شاهد علي تعانق المتعة والفائدة.. فنراه يهتم دائمًا بتحريك الأفكار نحو الهدف الأسمي للحياة كما يهتم تمامًا بالتصوير الممتع الجذاب.. لقد هز المشاعر ودفعها نحو اقتناص العبرة من دياجير الأحداث "فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ" "سورة: الأعراف - الآية: 176"ولعلهم يتفكرون تلك شحنة كبري تطلق الفكر من أغلاله ليقف علي أطلال الزمن يستشف من ترابه التبر ومن ظلامه النور "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةى لاُوْلِي الألْبَابِ" "سورة: يوسف - الآية: 111".