أتاني أمين سر الجلسة بصور قضايا الجنايات التي ستنظرها الدائرة في الدور المقبل وحتماً لابد من قراءتها وفحصها. والوقوف علي ما بها من أدلة سائغة أو غير سائغة انتظارا لسماع مرافعة السادة المحامين ومناقشة شهود الاثبات والنفي بجلسة المحاكمة ومدي اقتناع المحكمة بكل ما تطلع عليه أو ما يصل إلي سمعها من مرافعات النيابة والدفاع. وسحبت أوراق القصية الأولي وبالاطلاع عليها توقفت كثيراً لأتأمل وأتفحص ما بتلك الأوراق فوقفت علي انها تحمل اتهاماً لأب ضرب ابنه البالغ من العمر ثلاثة عشر عاماً ضرباً مبرحاً حتي مات وقرر في أقواله بتحقيقات النيابة انه رجل مريض لا يقوي علي العمل الذي يعينه في الإنفاق علي أسرته وأن زوجته تعمل في بيوت مقابل أجر مع التزامها برعايتها لباقي الأولاد ولزوجها الجاني المريض واضطر الأب أن يقدم ابنه الفقيد إلي بعض الورش للعمل بها حتي تستطيع الأسرة أن تتعيش من الأجر الذي يحصل عليه ذلك الطفل وهو خمسون جنيها في الأسبوع. في يوم الواقعة كان الأب يقضي أمراً خارج المنزل فأبصر ابنه الذي يعول الأسرة!!! يلعب بالكرة مع أقرانه في الشارع فبهت الأب لذلك الفعل إذ أن المفروض أن يكون ذلك الغلام في مكان عمله. فناداه ليسأله عن سبب تواجده خارج مكان العمل فضلا عن ممارسته اللعب مع أقرانه. فزعم الطفل الفقيد أن أحد "الأسطوات" طلب منه شراء بعض أشياء له فاصطحبه الأب إلي مقر الورشة. وعندما أبصره حارس المكان رد علي تساؤل الأب بأن الطفل لم يحضر للعمل منذ ما يقرب من أربعة أيام فجُن جنون الرجل واستشاط غيظاً وغضباً إذ انه شعر بل تأكد بأن الأجر الأسبوعي الذي يتعيش منه هو والأسرة أصبح معدوماً. وما كان من الأب إلا أن اصطحب ابنه الفقيد إلي منزله وقام بتوثيقه بمساعدة الأم وسحب عصا خشبية انهال بها ضرباً علي ابنه غير مبال بصراخه أو بكائه حتي سكت الطفل ولم يُسمع له همسة فاضطرب الأب وسكت عن غضبه وأخذ يتفحص ابنه الذي سكنت جوارحه كلها وبعاطفة الأب حمله فوراً إلي أقرب مستشفي حكومي ليخبره طبيبه ان ابنه فارق الحياة وأخذ يبكي بلا وعي ويلطم وجهه ندماً وقهراً ولكن بعد فوات الأوان. ولم أتمالك مشاعري ازاء هذه الحادثة العنيفة التي تقطر أسي وتنزف حزناً. وأغلقت الأوراق وقد أصابني حزن وغم وأخذت أتأمل هول الحادثة وأتساءل بيني وبين نفسي عمن الجاني الحقيقي في هذه القضية. هل الأب المريض الفقير المسكين الذي غفلت عنه الدولة وهمشه المجتمع. فلم يجد مسعي لسد حاجته وإشباع أطفاله إلا أن يقدم أكبرهم إلي الشقاء والعذاب ليجني من ورائه قروشاً قليلة لا تكاد تقوي علي اقامة شبه حياة. من الجاني علي هذا الطفل الذي حرم من كل حق يجب أن يتمتع به مثل كل الأطفال الذين يتساوون معه في المرحلة العمرية. هل لعب هذا الطفل وتمتع بلعبه مثل كل الأطفال. هل ذهب هذا الطفل المجني عليه والذي مات تحت طاحونة البؤس والشقاء والمرض اللعين هل ذهب إلي المدرسة ليجلس بين أقرانه يقرأ ويكتب ويرتدي الملابس التي ينعم بها كتلميذ التحق بمدرسة تعلمه وتوجهه.. الطفولة هي النواة التي ينشأ منها الشاب والفتاة والرجل وهي النبتة التي منها تتكون المجتمعات وبالاهتمام بالأطفال وبرعايتهم وتنشئتهم تنشئة سليمة نضمن أن يكون مستقبلهم سوياً معافي من أمراض اجتماعية مدمرة. كل الأطفال من حقهم المداعبة والملاطفة والدلال والرعاية الصحية والاجتماعية وقبل ذلك وبعده من حقهم أن يتلقوا التعليم المناسب لكل سن وممارسة الألعاب التي يحبونها غير محرومين من كل ما يتناسب مع تنشئتهم وتربيتهم وتكوينهم الذهني والنفسي والاجتماعي. أما هذا الطفل فقد حُرم من كل ذلك بل تحمل عبء المعيشة لأسرة بصورة تفوق قدرته وتكوينه إلا انه لم ينس انه كباقي الأطفال من حقه أن يلعب وأن يلهو وأن يصبح مثل أقرانه له حرية الحركة في حياته وفي سن تعارفت كل الشرائع والقوانين واستقرت علي انه غير مكلف ولا يجوز تشغيله. وتعريضه لمخاطر العمل. إلا أن المجتمع لم يرحمه ولم يرعه ولم يحافظ عليه فتركه وأهله إلي أنياب الحاجة وأظافر الفقر تنهش فيهم وتلقي بهم في غياهب النسيان والإهمال. لقد استشعرت ان الجاني الحقيقي ليس هو الأب وإنما الأخير هو الضحية وان القاتل هو الدولة التي لم ترع أمثاله ولم تسع لتقديم يد العون والمساعدة إليه وإلي أسرته. وإن كان الأب في الأوراق هو القاتل. أو هو الأب الذي ضرب ابنه ضرباً أفضي إلي موته إلا أن الظروف القاسية والفقر المدقع. والحاجة المذلة كانت وراء ذلك كله وقد حسم الإسلام مسئولية الدولة عن الشعب ورعايته في حديث الرسول صلي الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالأمير راع علي رعيته ومسئول عنهم..." وتطبيقاً لذلك قرر الخليفة الثاني عمر بن الخطاب انه يخشي إن عثرت دابة بالعراق أن يسأل عنها يوم القيامة لِمَ لم تمهد لها الطريق وفي ذلك تحديد دقيق ومتسع لمسئولية الحاكم فما بالنا بمسئوليته عن الإنسان قطب هذا الكون وهامته. كما انه رضي الله عندما شاهد رجلاً مسناً وكان غير مسلم يتسول الناس طلب من مساعديه تقدير جعل له من بيت المال إيمانا منه بحقه في رعايته من الدولة.. والأمثلة علي ذلك كثيرة. وقد حث الرسول صلي الله عليه وسلم في حديث رائع بما معناه أن لكل إنسان الحق في أن يكون معافي في بدنه آمناً في سربه عنده قوت يومه. ولا شك ان المجتمع مسئول عن توفير ذلك كله لمن لم يكن قادراً علي تحقيقه لعجز أو لمرض وهو التكافل والتعاون الذي شخصه سيدنا رسول الله حين قرر أن المؤمنين كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تكاتف وتعاون سائر الجسد لرعايته تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي. ومن ثم فإنه وإن كانت المحكمة انتهت في قضائها بعقوبة مع إيقاف تنفيذها إلا انه وقر في عقلها ووجدانها أن الأب والابن ضحية مجتمع بلا قلب وبلا ضمير.