لازلت أذكر ذلك اليوم البعيد يوم جاءني كتاب هدية من الكاتب الكبير إبراهيم المصري يحمل عنوان (خبز الأقوياء) بإهداء رقيق، وقرأت الكتاب وأعجبني عمق المؤلف في تناوله لمختلف القضايا الأدبية والثقافية والسياسية والاجتماعية، واتصلت به شاكرا، ودعاني للالتقاء به في منزله.. كان شديد التواضع.. عميق المعرفة.. شديد الوعي بما يجري حولنا من أحداث، وتحدثت معه في كثير من القضايا، غير أنه ر كز في حديثه عن البخل والبخلاء، وكيف تناول هذا الجانب من حياة الناس الأدباء والشعراء والفلاسفة، وكنت أنا شديد الإعجاب بتحليلاته للمشاعر والأحاسيس الإنسانية، حتي تخال أنه أحد علماء النفس المتبحرين في أعماق الإنسان عندما ينتابه الحزن أو السعادة، الأمل والألم، وحتي عندما يعذبه الحب وتعتريه الأشجان، وكانت تحليلاته لشخصية البخيل من أعمق التحليلات التي قرأتها في هذا المجال، وكان رأيه مثلا في زوجة البخيل: وحتي في دائرة الزواج، وفي علاقة البخيل بالمرأة.. نري البخيل لايسعد إلا بقرب امرأة بخيلة.. فهو متي اقترن بهذه المرأة واستوثق من بخلها وتقتيرها، أحبها وتشبث بها، وكانت رابطة البخل التي تجمع بينهما أشد وأقوي من رابطة أعنف وأعمق حب. والواقع أن الرجل العادي يحب في المرأة العادية لونا من الجمال يستهويه أو عاطفة غلابة تأسره، ولكن الجمال أو العواطف لا تلهب شعور الحب عند البخيل، لأنها في نظره أشياء وهمية خيالية مصيرها يوما إلي زوال. أما نزعة البخل عند المرأة فهي التي تجذب البخيل إليها وتحببه فيها، إذ هي نزعة تجمع مالا أو تحرص علي مال. والمال عند البخيل هو الشيء المحسوس الذي يري، والشيء الحي الذي يتوالد، والشيء النابض المختلج الجدير بالحب. فبخل المرأة يفتن البخيل، وينافسه في رذيلته، فيثير إعجابه بالمرأة البخيلة ويدفعه إلي حبها. ثم إن البخيل يعيش مع ماله في عزلة وهو أحوج الناس إلي رفيق، فمتي صادف زوجة تحرص علي المال مثله، أمن علي نفسه وماله بجوارها، واستمتع في صحبتها بلذة الاكتناز المتبادلة ، ولذة الوفاق الزوجي التي لاتكبده من النفقات قدر ماتوفر له من المال الذي يقدسه.. ويري كاتبنا الكبير أن هذه اللذة المزدوجة التي يشعر بها البخيل والبخيلة معا، هي التي تصب في علاقتهما اليومية ذلك الحب العقلي المصلحي الكتوم الذي يربط بينهما برباط أوثق ألف مرة من رباط الحب السليم لأنه رباط حب شاذ ومعكوس.