في حياة كل سياسي أو حاكم معروف أسرار ومواقف لا تعكسها بالضرورة عشرات الآلاف من الفلاشات التي تلتقط له تعد له أنفاسه أثناء وجوده في السلطة.. تلك الأسرار التي تتعاظم أهميتها وخطورتها كلما ارتبط اسم هذا السياسي بدولة عظمي أو بأحداث جسام غيرت خريطة العالم مثلما كان الحال مع عجوز السياسة الأمريكية مادلين أولبرايت وزيرة خارجيتها في فترتي رئاسة الرئيس بيل كلينتون التي لا تزال حياتها مليئة بالخبايا والحكايات والتفاصيل لم تزح عنها الستار في كتبها السابقة "السيدة الوزيرة" و"الجبروت والجبار" و"اقرأوا دبابيسي" لتظل هدفاً للناشرين وصناع الميديا لاسيما إذا تحدثت بتلقائية دون أي تحفظات أو دبلوماسية. واليوم طالعتنا مادلين أولبرايت بحقيقة هويتها اليهودية التي كانت عندما تواجه أسئلة تتعلق بها تصبح عدائية ومتصلبة، والآن وبعد عقود طويلة ظلت تخفيها وتنكرها اعترفت بها وأعلنت عنها بكل صراحة واتهمت أدولف هتلر الزعيم النازي بإبادة أفراد من عائلتها في الهولوكست كل ذلك جاء بكتابها الجديد "شتاء براغ" الصادر عن دار النشر البريطانية الشهيرة هاربر كولينز التابعة لمؤسسة نيوز كورب. وتعد "ماري آنا كوربولوفا" أو أولبرايت أشهر اسم اقترن بإدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون فعملت كسفيرة للأمم المتحدة منذ عام 1993 حتي تقلدت منصب وزيرة خارجية للولايات المتحدة عام 1997 فهي من المدافعين عن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وفي البلقان ومن أشد المدافعين عن إسرائيل. ولدت أولبرايت في مدينة براغ عاصمة جمهورية تشيكوسلوفاكيا عام 1937 وأرغمت علي ترك وطنها إبان هجوم النازيين وقضت طفولتها في انجلترا. وتتحدث المذكرات عن مرحلة الطفولة لأول امرأة تعتلي منصب وزيرة خارجية أمريكا وقصة تنقلها من بلد إلي أخري بحثاً عن ملجأ آمن خوفاً من أدولف هتلر وبعيداً عن النازيين. وفي افتتاحية "شتاء براغ" أوضحت أولبرايت إلي الدافع وراء كتابتها لهذه المذكرات وهي رغبتها في البحث في ماضي عائلتها واستكشافه.. عائلتها التي عاشت في خضم الأحداث الكبري للعصر، فعاصرت الثورة الصناعية وانهيار الإمبراطورية النمساوية المجرية واحتلال النازيين وصعود الشيوعية والمحرقة اليهودية والحرب العالمية الثانية وانفراد الولاياتالمتحدة كقوة عظمي. وتري أكثر شخصيات المجتمع الدولي قوة إلي أن كتابها يعد رحلة مع الدروس الدنيوية فهو دليل للمستقبل يمكن الاسترشاد به من خلال الاستفادة من الماضي والتعلم منه، فهو ليس متعلقا بقصة رحلة معاناة شخصية ولكنه أشمل وأوسع لتعلقه بجيل كامل اضطر إلي اتخاذ قرارات مؤلمة وسط جلبة الحرب. وأضافت قائلة إن الحزن ليس بعيداً عن كل من عاش خلال أعوام 1937 وحتي 1948مات كثير من الأبرياء وعلينا ألا ننساهم حتي بعد كل هذه السنوات، فاليوم نفتقر إلي القوة لاستعادة تلك الأرواح ولكن علينا واجب يجب القيام به نحوهم وهو محاولة معرفة بقدر المستطاع ما حدث ولماذا؟. وفي "شتاء براغ" مزجت أولبرايت، التي نجت من الاضطهاد النازي، بين التاريخ وملحمة جسدتها أسرة، فعجوز السياسة الأمريكية جعلت التاريخ أكثر حيوية بحسب صحيفة "واشنطن بوست". فقد رسمت قصة صراع عائلتها اليهودية من أجل البقاء علي قيد الحياة خلال الاضطرابات التي اجتاحت شرق أوروبا القرن الماضي وتعرض اليهود إلي ضغوط خلال الأعوام 1937 إلي 1945. فاستطاعت من خلال كتابها الخروج برؤية شخصية وقراءة عميقة للتاريخ. ولهذا وجدت من السهل فهم أسباب إخفاء هويتهم اليهودية والعيش بديانة أخري طيلة هذه السنوات. فوالدها "جوزيف كوربل" وأشقاؤه لم يذكروا لزوجاتهم أنهم يهود، ففي أثناء ذلك الوقت من يعترف بأنه يهودي كان يعاني من الوحدة والعزلة والبطالة بجانب الوحشية في التعامل التي لا يمكن التنبؤ بها، والمنفي وفقدان المواطنة وفي بعض الأحيان التعرض لعمليات القتل الجماعي كما فعل النازيون باليهود. ويمكن الكتاب ذو الطابع الخاص والذي يقع في 480 صفحة بأكثر من زاوية. ف"شتاء براغ" يتعرض لجانبين الأول: قصة عائلة أولبرايت ومحرقة الهولوكوست وذكرياتها عن الحرب العالمية الثانية وبعض المقتطفات التي يوضح فيها والدها مشاعره تجاه الحرب وما حدث لبلادهم وأسرهم ورحلتهم إلي نيويورك وطلب اللجوء السياسي، أما الجانب الثاني فهو عن قصة قيام جمهورية "تشيكوسلوفاكيا" نتيجة اتحاد خمس مناطق مستقلة عن الإمبراطورية النمساوية المجرية . وفي عام 1939عندما فشلت جهود كل من فرنسا وبريطانيا في توقيف هتلر استطاع النازيون احتلال تشيكوسلوفكيا وطني"، علي حد قول أولبرايت، التي مضت قائلة كانت لم أتعد العامين من عمري عندما نجح والدها في الحصول علي تصريح من الجستابو النازي -البوليس السري الألماني- بالسفر، وفر بنا إلي لندن حيث عمل وقتها رئيسا للإذاعة التشيكوسلوفكية في المنفي. وتوضح قائلة: صحيح أنهم كانوا في أمان ولكن غرباء علي أرض يمكن أن يقترب منها الخطر بعدما استطاع الاحتلال الألماني السيطرة وفرض قبضته علي مناطق عدة ووصلت جرائمه إلي حد الإرهاب بقيادة هيدريش راينارد، المعروف بسفاح براغ، وتم التحضير لإبادة اليهود في البلاد. وبالفعل قتل 25 من أقاربها في المحرقة النازية وكان من بينهم جدتها أولجا كوربل واثنان آخران من أجدادها قتلوا بمعسكر الإبادة في أوشفيتز، وبعضهم يظهر اسمه في قائمة ضحايا المنقوشة مع 77.00 يهودي تشيكي كانوا قد أبيدوا في الهولوكست. وبحلول عام 1942 عادت مجموعة من التشيكوسلوفاكيين إلي وطنهم من أجل تحريره واستطاعوا اغتيال سفاح براغ. وعندما هزم النازيون وخرجوا من البلاد، عادت أولبرايت وأسرتها إلي بلادها ووقتها كانت في الثمانية من عمرها إلا أن الانقلاب الشيوعي أجبر أسرتها علي الهروب خوفاً من الاضطهاد إلي منفي جديد ولكن هذه المرة إلي الولاياتالمتحدة بعدما طلب والدها اللجوء السياسي عام 1949 حيث كان يعمل حينها سفيرا لبلاده بالأممالمتحدة ودعم وضعه الجديد بالتحول من اليهودية إلي المسيحية الكاثوليكية. وعلي حد قول أولبرايت، توقع والدها أن التحول إلي الكاثوليكية سيجعل الحياة أسهل بالنسبة لهم وفي مأمن، لم يحدثها يوماً عن تغيير ديانتهما وتحولهما إلي المسيحية. وصلت أولبرايت وهي في الحادية عشرة من عمرها، مع والدتها مانديولا كوربل وأخوتها، إلي نيويورك علي متن سفينة ثم لحق بهما والدها عقب موافقته علي تمثيل بلاده في لجنة الأممالمتحدة. ومن وقتها عمل والدها علي تغيير اسمها من ماري آنا كوربولوفا إلي مادلين كوربل أولبرايت كما يفعل الكثير من الأمريكيين لإخفاء أصلهم اليهودي. وفي عام 1997 بعدما تولت وزارة الخارجية وكانت في 59 من عمرها، كشف لها مراسل صحيفة "واشنطن بوست" مايكل دوبس أصولها اليهودية وفصول حياتها من براغ إلي الولاياتالمتحدة، إلا أنها أنكرت كل هذا. وكان دوبس قد أزاح لها عن هذه الأسرار من خلال أحد تحقيقاته عنها. وأَوضح التحقيق أن 3 من أجدادها والعديد من أفراد أسرتها لقوا حتفهم في الهولوكوست، فحينها كانت مفاجأة مذهلة بالنسبة لها لأنها نشأت طيلة عمرها هذا باعتبارها من الروم الكاثوليك. وردت بشعور من المفاجأة علي ما نشر حولها، ووجدت الكثير من الناس صعوبة في التصديق بأنهما لم يعرفا شيئا فعلا عن هوية والديهما. فاهتزت مشاعرها وشكت في جذورها وهويتها مما دفعها للبحث عن إجابات للأسئلة ظلت تراودها سنوات طويلة، فقامت برحلة إلي جمهورية التشيك مع أحد أقاربها للتفتيش في أوراق والدها القديمة وزيارة عدة مدن صغيرة في تشيكوسلوفاكيا التي كان يعيش فيها أهلها وإلي المعبد الذي شيد لتخليد أسماء ضحايا الهولوكست.