إذا كان الفريق سلفا كير أول رئيس لدولة جنوب السودان مسيحيا ملتزما يحضر عظات الأحد في الكاتدرائية الكاثوليكية في العاصمة جوبا، فإن شقيقته من الأب حفصة كير التي تزور مصر هذه الأيام مسلمة وشديدة التدين، وتسكن بلادنا قلبها، إذ تعرف أحياءها وتحفظ شوارعها، وتعتبر القاهرة من أحب وأجمل المدن إلي قلبها. من منا لايعرف سلفاكير بقامته الطويلة وبشرته السمراء، ولحيته الكثيفة الداكنة، وقبعته الشهيرة التي يرتديها رعاة البقر! لقد عرفته مصر منذ أن كان نائبا للرئيس عمر البشير وكان يتردد علي القاهرة ويقابل مسئوليها ودبلوماسييها، وحضرت مرة زيارته للإمام الأكبر الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوي (شيخ الأزهر) في آواخر عام 2006، وأعلن أمامه وقتها أن حركته ليست ضد الإسلام ولا العروبة، مستشهدا بصحبة أحد قواده العسكريين ياسر عرمان المسلم، وبأن أعدادا كبيرة من أعضاء حركته درسوا في الأزهر الشريف والجامعات المصرية، قال كل ذلك باللغة العربية ولكن بلهجة سودانية جنوبية، وبأن جزءا من أعضاء أسرته يدينون بالإسلام! في هذه الزيارة طلب الفريق سلفا كير وكان وقتها نائب الرئيس السوداني عمر أحمد حسن البشير ورئيس حكومة الجنوب، من مرافقيه أن يوفروا له شرائط لمسرحيات وأفلام الفنان عادل إمام الذي يضحكه كثيرا، وسبق أن شاهد له مسرحية الزعيم في زيارة خاطفة للقاهرة عام 3002 وبناء علي طلبه فقد تم وقتها تدبير أشرطة لمسرحيات : (الزعيم) وشاهد ماشفش حاجة ومدرسة المشاغبين وكذلك أفلام: التجربة الدانماركية وعريس من جهة أمنية، وكان سلفاكير سعيدا جدا بأن تحمل حقائبه هذه المسرحيات والأفلام للسفر بها إلي السودان! زعيم أحدث دولة في العالم الرئيس السوداني الجنوبي سلفاكير وعمره الآن 16 عاما يعد مسيحيا ملتزما شأنه في ذلك شأن الكثيرين من شعب جنوب السودان، ويحضر عظات الأحد في الكاتدرائية الكاثوليكية في العاصمة (جوبا) ويوجه دائما من خلال البيانات الصادرة عن مكتبه رسائل الحب والمصالحة، فهو إن كان متدينا بمسيحيته إلا أنه مستنير وغير متعصب، ودليلي علي ذلك أخته المسلمة الآنسة (حفصة كير) التي قابلتها في القاهرة الأيام القليلة الماضية، هي في العقد الثالث من عمرها متوسطة الطول ذات بشرة سمراء غير داكنة، تتحدث اللغة العربية بطلاقة بنفس مستوي تحدثها للإنجليزية، مبتسمة متفائلة وشديدة الثقافة والتهذيب والرقي وهي بالمناسبة سيدة أعمال، سكنت مع شقيقتيها أثناء زياراتها لمصر فندق (الميريديان) بمصر الجديدة، وبعد أن انتهت من مقابلاتها الرسمية. استأجرت شقة فاخرة بحي الدقي لتكون علي حريتها، وتتذوق الأطعمة المصرية والسودانية من داخل مطبخها، وهي إنسانة شديدة التواضع والاعتزاز بنفسها في آن واحد، وتربطها صداقات وطيدة بأهل مصر التي تسكن قلبها. توقفت أمام العزيزة (حفصة) طويلا عندما تعرفت عليها لأول مرة، وبدت أمامي علامات استفهام حائرة تبحث عن إجابة: كيف تحمل الاسم الشريف لأم المؤمنين زوجة رسول الله ([) السيدة حفصة بنت سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وهي في نفس الوقت شقيقة رئيس جمهورية جنوب السودان الرئيس سلفاكير الذي يدين بالمسيحية؟ لكن سرعان ماتبددت الدهشة والغيوم عندما أخبرتني »حفصة« أنها شقيقة للرئيس من الأب فقط، ووالدتها سيدة مسلمة من شمال السودان، أما والدة الرئيس فكانت مسيحية والذي حمل ديانة والدته. وبهرني التدين الجميل ل»حفصة« بدون تطرف ولا نقصان، وحرصها الشديد علي التزود بالقرآن الكريم وقراءته بشكل منتظم ومحاولة فهم معانية، ورغم أنها شديدة الصلة بشقيقها رئيس الجمهورية المسيحي فإنه لم يتدخل يوما في ديانتها، وهو زعيم يؤمن بحرية العقيدة والديانة. لقد فاز »سلفاكير« بغالبية ساحقة (92.99 في المائة) من أصوات ناخبي جنوب السودان في انتخابات الرئاسة التي جرت قبل الاستقلال في العام الماضي، وهو من مواليد قبيلة »الدينكا« في ولاية بحر الغزال عام 1951، وبدأ حياته العسكرية ضابطا في الجيش السوداني قبل أن ينضم لقوات »جون قرنق« قائد جيش الحركة الشعبية لتحرير السودان، وفي عام 1986 أصبح نائبا لقائد الأركان في هذا الجيش الانفصالي، ثم نائبا لجون قرنق، وبعد وفاته تولي الفريق »سلفاكير« رئاسة حكومة جنوب السودان وأصبح نائبا للرئيس عمر أحمد حسن البشير، إلي أن أصبح زعيما لأحدث دولة في العالم وهي جمهورية جنوب السودان. ومن أهم سمات »سلفاكير« صراحته المهذبة، وبره واهتمامه الكبير بأهله إذ يعطف عليهم كثيرا، ورغم أنه رئيس جمهورية إلا أن الحياة العسكرية تستهويه كثيرا وتشكل مساحة هائلة من منظومته الحياتية اليومية، فهو يستيقظ مبكرا، ولا يدخن، وصريح إلي أبعد مدي، وأكسبته خبراته الطويلة السابقة في المخابرات العسكرية أن يفكر كثيرا قبل أن يتكلم، ويتمتع بذكاء حاد، وذهن صاف، وذاكرة حديدية تذهل كل من يلتقي به، كما أنه إنسان متواضع، ويتسم كذلك بالبساطة في كل سلوكياته وكان مختلفا تماما عن شخصية سلفه الزعيم الراحل »جون قرنق« الذي لقي حتفه في حادث طائرة عسكرية في 30يوليو عام 2005، وله شعبية كبيرة كزعيم بين أهله في الجنوب، لكنه بالطبع يواجه تحديات الدولة الجديدة بسبب افتقاد الجنوب للبنية الأساسية لتكرير البترول الذي يشكل المصدر الرئيسي للدخل، ويجب الاعتماد في تكرير هذه الثروة البترولية وتصديره عبر خطوط الأنابيب والموانئ التي يمتلكها الشمال، ولذلك فالنزاعات بين الشمال والجنوب بعد الاستقلال مازالت مستمرة بسبب تلك الثروة، وأخشي كما يخشي غيري أن تكون سببا في اندلاع صراع جديد بين الأشقاء، وتخضع لنظرية المؤامرة التي تديرها الدول الكبري للاستيلاء علي ثروة السودان.