يحتفل مسيحيو مصر يوم الأربعاء القادم بذكري مولد سيدنا عيسي عليه السلام وفي هذا التحقيق تستعرض «آخرساعة» جانباً من رحلة العائلة المقدسة، فأثناء مرورك بالأراضي التي مرت عليها العائلة المقدسة، ردد علي مريم السلام، ربما يُحتسب لقاء لديها ومحبة إليك. فهي القديسة التي نتبارك بها جميعاً، والقريبة من قلوبنا، والمفضلة علي نساء العالمين، والبتول التي حملت طفلها المسيح، لتلبي نداء الملاك الذي أتي ليوسف النجار - خادم السر الإلهي وخطيبها - في حلم قائلاً له: "قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَأهْرُبْ إِلَي مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّي أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ"، وفق ما جاء في إنجيل متي. لم يكن هذا الهروب خوفاً أكثر منه شجاعة جسدتها امرأة لم يصدقها سوي قليلين في زمانها، فقررت أن ترحل مع طفلها ويوسف والعجوز سالومي، من فلسطين إلي بلدة لا تعرفها. وبحكمة وهبها إياها الله، ظلت تغير مكان إقامتها من وقت لآخر، حتي لا يصل إليها الجواسيس الذين أرسلهم هيرودس - ملك اليهود - للبحث عنهم، لتبارك 25 مكاناً من الشمال إلي الجنوب، بداية من شمال سيناء، مروراً بالدلتا ووادي النطرون والقاهرة الكبري، نهاية بصعيد مصر. . اخترنا أن تركز علي آخر مرحلة في الرحلة، بالتحديد أول مدن الصعيد التي زارتها مريم، وهي المنيا، لسببين أولهما أن هذه المحافظة يسكنها أكبر عدد من الأقباط، وثانيها أنها تضم دير جبل الطير الذي اختارته وزارة السياحة في أكتوبر الماضي من ضمن سبعة أماكن تشمل كنيسة الزيتون بالمطرية وكنيسة أبوسرجة بمجمع الأديان، وكنيسة العذراء بالمعادي، وكنيسة وادي النطرون، ودير المحرق ودير درنكة بأسيوط، لتكون البداية لتنظيم رحلات لزيارة الأماكن التي تم تحديدها لمسار العائلة المقدسة. شجرة مريم تقع وسط أحد مساجد البهنسا.. وبئر شرب منها المسيح في دير الجرنوس رسائل الأقباط للعذراء طقس يومي في المغارة الجبلية لم نذهب مباشرة إلي دير جبل الطير. اخترنا أن نزور الأماكن التي ذهبت إليها مريم في المنيا، لنجرب قليلاً من معاناتها.. طيلة الرحلة لم يكن في ذهننا سوي سؤالين ونحن نعاني التنقل من مكان لآخر: كيف تجولت العذراء في كل الطرقات الوعرة، غير المستقيمة، وهي تمتطي حماراً؟ وكيف ستحيي "السياحة" رحلة العائلة قبل تمهيد الطرق وتطوير القري؟". خريطة مسار العائلة التي اصطحبناها معنا، تشير إلي أنهم دخلوا المنيا، عبر قرية إشنين النصاري التابعة لمركز مغاغة، التي تضم ثلاث كنائس؛ واحدة لطائفة "الإنجيليين"، وأخري ل "البلاميس"، وثالثة ل "الأقباط الأرثوذكس" وهي كنيسة مارجرجس أو كنيسة إشنين، كما يطلق عليها الأهالي، والتي تحتوي علي بئر باركها المسيح. قصة هذه البئر تقول إنه عندما دخلت العائلة إشنين عبر نهر النيل، قادمة من منطقة المعادي، جلست إلي جوار بئر حوالي ست ساعات، وهناك طلب المسيح من العذراء ماء ليشرب، فلما نظرت العذراء إلي البئر وجدت مياهها غائرة وعميقة، وعجزت أن تصل إليها، فلجأت إلي الاستعانة بمعجزات المسيح وذلك بأن وضعت كفه علي البئر ليعلو منسوب المياه حتي يصل إلي حيث يستطيعون الشرب منها. ويتردد بين الأهالي هناك أن معجزة ارتفاع الماء تتكرر يوم 22 أغسطس من كل عام، وهو اليوم الذي حدثت فيه المعجزة للمرة الأولي، التي تحتفل به الكنيسة. ومن إشنين، رحلت العائلة إلي "دير الجرنوس"، الذي يقع غرب "مغاغة" بحوالي 18 كيلو مترا، وهو أقرب إلي الجبل الغربي منه إلي نهر النيل، ويحيط به الأراضي الزراعية ومزارع النخيل. عندما وصلنا إلي هناك، وجدنا بوابة الدير الأمامية تحمل نحتا حديديا للسيدة مريم، تتم إضاءتها ليلاً، وفي المدخل صورة كبيرة للمتنيح البابا شنودة الثالث، بينما حملت البوابة الخلفية آية (فرحت بالقائلين لي: إلي بيت الرب نذهب - مزمور 122: 1"، وبالمصادفة كانت هناك صلاة، يلقيها القس إليشع لويس علي الحاضرين في خشوع تام. الذي رحب بنا للتو بعدما انتهي الأهالي الذين تدافعوا علينا من دعواتهم وإشعال الشموع بجوار البئر، قائلاً: إن العائلة المقدسة سكنت الدير أربعة أيام كانت كفيلة أن تحمل القرية لمدة طويلة اسم "باي إيسوس"، والذي يعني في اللغة القبطية "بيت يسوع". مشيراً إلي بئر تقع بجوار بوابة الكنيسة الداخلية، تحمل لافتة مكتوبا عليها: "بئر مقدسة شربت منه العائلة المقدسة"، ويصل عمق هذه البئر من فوق سطح الماء إلي خمسة أمتار تقريبا، وماؤها عذب، وتحدث منها بعض المعجزات وشفاء الأمراض، لذا يأتي الزوار - الذي يصل عددهم سنوياً إلي أكثر من 40 ألفا - ليأخذوا من مائها علي سبيل البركة. البئر التي تعاني من تدهور، لعدم ترميمها من قبل وزارة الآثار، يقول عنها القس إليشع إنها متصلة ببئر أخري تقع في قرية البهنسا - علي بعد 10 كيلو من دير الجرنوس - ثالث مكان مرت عليه العائلة المقدسة في المنيا، لذلك لم يكن أمامنا سوي أن نستقل السيارة، إلي «بقيع مصر» كما يطلقون عليها، نظراً لأنها تضم مقابر خمسة آلاف من أولياء وشهداء المسلمين. وعندما تجاوزنا مدخل القرية التي تتبع مركز بني مزار، اتبعنا وصفات الأهالي للوصول إلي البئر، وكلما توغلنا في الداخل، زادت أعداد مآذن الجوامع، وعرفنا أن هذه القرية يسكنها مسلمون فقط، لذلك لم يكن مدهشاً أن نجد بئر المسيح وشجرة مريم داخل مسجد. علي الجمام.. هو اسم المسجد الذي بمجرد أن تتجاوز بوابته، تجد نفسك واقفاً أمام شجرة يحيطها سور عُلّقت أمامها لافتة مكتوبا عليها: «شجرة السيدة العذراء مريم.. مكان زيارة العائلة المقدسة». وتشبه في فروعها والتواء جذورها شجرة مريم الموجودة في منطقة المطرية بالقاهرة. ويجاور الشجرة مباشرة بئر لا يستخدمها أحد، إذ قال حارس المسجد يوسف رجب إن مياه البئر مالحة، ويأتي إلي هنا كثير من الأقباط والمسلمين خاصة يوم الجمعة كي يتبركوا بالشجرة، مضيفاً: «الله وحده الذي يعلم إذا كانت مرت العدرا من هنا أم لا، لكنني أشهد أن الشجرة لا تسقط منها ورقة واحدة، وتظل مزدهرة دائما». ليتبقي لنا مكان واحدً، هو دير جبل الطير، أو دير العدرا، أكثر الأماكن المقدسة لدي أهالي المنيا، الذي يتغنون به في الترانيم قائلين: «علي دير العدرا وديني.. زاد فرحي والرب داعيني». والذي يقصده سنوياً حوالي مليونين في أعياد ميلاد المسيح والعذراء، إذ يمتلك ساحة شاسعة تقام فيها الموالد الخاصة بالقديسين. يقع الدير علي بعد 12 كيلو مترا شرق النيل بمدينة سمالوط، وبه كنيسة محفورة في حضن الجبل، تعود إلي القرن الرابع الميلادي إذ شيدتها الملكة هيلانة والدة قسطنطين الأول. ولكي تصعد إلي الكنيسة يجب أن تصعد 127 سلمة نحتت في الجبل. وعندما تستقر قدماك أمامها، تجدها محاطة بالبيوت رغم أنها مسجلة كأثر، ولا تغلق أبوابها، خصوصاً أن الآباء فيها متصلون بشكل دائم مع الناس. وعلي بابها عُلّقت لوحة لا تجدها في كل الكنائس، تطالب المصلين والزائرين بأن يخلعوا أحذيتهم؛ "لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة". لحسن الحظ للمرة الثانية علي التوالي، كانت الصلاة قائمة. أصوات الترانيم تدخل عميقاً في المسام مخلفة حالة من الدفء. الكل يجلس في انتظام شديد. يفترشون بأجسادهم الأرض في بهو الكنيسة، ورغم ضيق مساحتها من الداخل، تشعر وكأنهم مكتفون بالمكان. سألت إحدي السيدات التي خرجت بعد انتهاء الصلاة، تدعي عدلة فتحي، تبلغ من العمر 65 عاما، عن شعورها وهي تحيا في المكان الذي مكثت فيه العذراء، قالت بسكينة: "شي الله يا عدرا، عايشين ببركتها، وبعرضها.. هي ست الكل". تقبيل الأيدي وتمريرها علي وجه العذراء والصبي في الأيقونات المعلقة علي الجدران، أحد الطقوس الشائعة التي يمارسها الأقباط هناك؛ رجال ونساء وشباب وأطفال يأخذون منها البركة، ويبعثون لها برسائل مكتوبة تحتوي علي أمنياتهم التي يرغبون في تحقيقها. هذه الرسائل تُعلّق في المغارة التي تقع علي يمين الباب الداخلي للكنيسة، التي مكَثت فيها العائلة المقدسة ثلاثة أيام مليئة بالأحزان والمتاعب، قبل أن يذهبوا إلي دير المحرق بمحافظة أسيوط حيث أقاموا هناك لمدة ستة أشهر و10 أيام. تولي الأب متي كمال حنا، خادم الكنيسة، مهمة أن يتلو علينا تاريخ الكنيسة، قائلاً: "أنشئت الكنيسة عام 328م، نُحتت في الصخر بأمر من هيلانة علي نظام طقس الكنيسة الأرثوذكسية، وبها عشرة أعمدة متصلة ببعض منها الأربعة حوائط بالدور الأرضي، وعمر الدور الأرضي 1674 سنة، وقد اهتم الأنبا ساويرس المتنيح مطران كرسي المنيا والأشمونين بتجديدها، فقام بعمل دور ثان، لكننا أغلقناه خوفاً من سقوطه، فالكنيسة تعاني حالة من التدهور الكامل، لعدم ترميمها، ونخشي من سقوطها، فنحن لم نقرع الجرس منذ عشرين عاماً، حتي لا يسقط البرج". ثم اصطحبنا الأب متي لنشاهد بأعيننا، الأعمدة المتدهورة، منتهزاً في الوقت نفسه الفرصة كي يعرّفنا علي الأيقونات الأثرية الثلاث في الكنيسة، التي قام برسمها الفنان القبطي أنسطاسي الرومي عام 1554م، وهي أيقونة للسيدة مريم وهي مأخوذة من الأيقونات التي رسمها لوقا الطبيب، وأيقونة الشهيد مارجرجس، وأيقونة القديسة دميانة"، كما تضم الكنيسة معمودية أثرية لا يوجد مثيل لها في الكنائس، تعاني أيضاً حالة من التدهور. وواصل خادم الكنيسة بهدوء كأنه يريد أن يوصل كل معلوماته: "تتعدد مسميات الجبل، فيدعي جبل الطير نسبة إلي طيور البوقيرس المهاجرة، التي كانت تأتي سنوياً وتستقر علي سفح الجبل وتنقر بمنقارها في صدع الجبل، وكل طائر يمسك بالجبل يرفرف بجناحيه حتي الموت، ومن هنا جاءت التسمية.. ويسمي أيضاً بجبل الكف حيث كادت أن تسقط صخرة من أعلي الجبل علي العائلة المقدسة أثناء عبورها نهر النيل، فأشار الطفل بيده ورفع كفه لأعلي ناحية الصخرة، ودون أن يلمسها طبع كفه عليها.. وكان وزير المعارف علي باشا مبارك في عهد إسماعيل باشا، أطلق علي هذا المكان دير البكرة، التي كان يستخدمها الآباء الرهبان في الصعود للجبل والنزول منه".