ما هذا الذى يجرى على مسرح السياسة الآن، مع أن الستارة لم تُرفَع تمامًا بعد؟ طيب! ما الذى يجرى خلف الكواليس من «بروفات» استعدادًا لرفع الستار عما هو سياسة، سمعنا عنها كثيرًا، ومارسنا بعض عينات منها أخيرًا، ثم فجأة وجدنا أنفسنا نعود إلى كتيب «دلائل الخيرات، فى فضائل الائتلافات، وفض الخلافات»؟ هذا الذى يجرى على مسرح السياسة شىء ليس له طعم، ذكّرنى بشعر عثرت عليه وأنا أبحث عن معنى للفتور العاطفى الذى يصيب مرضاى (وبعض عموم الشعب المصرى ولا مؤاخذة هذه الأيام، وربما فى غير هذه الأيام)، حضرنى الأشعر الرقبان، وهو أسدى جاهلى، يصف رجلا قائلا: «مسيخ مليخٌ كلحم الحوارٍ، فلا أنت حلوٌ ولا أنتَ مرّ!». ما هذا؟ ما الذى يجرى بالضبط؟ ألح علىّ هذا الخاطر وأنا أبحث عن معالم وتاريخ الأسماء المرشحة مؤخرا من أول أعلى منصب إلى أبسط مسؤول، ولم أستطع أن أصل إلى معالم تميز هذا من ذاك، طبعا لقصور معلوماتى الاستخبارية! بالإضافة إلى جهلى الشخصى بالسياسة ولا مؤاخذة، لكن ذلك لم يمنع أن تصل إلىّ تفسيرات عشوائية، بعضها موضوعى، وأخرى تآمرية، حول «أسباب الترشيح»، أو «التعيين»، أو حتى «الاستعانة» بهذا أو ذاك، لم أقف أمام أى نوع من هذه الأسباب، إيش عرّفنى أنا؟ كل ما وصلنى ليس إلا همسًا حول العلاقات الخاصة، أو الأخلاق الحميدة، أو المهارة فى تخصص بعيد كل البعد عما هو سياسة (هذا على أحسن الفروض). ما هذا؟ ما الذى يجرى بالضبط؟ سألتنى المذيعة الجميلة عمّا إذا كانت الدراما فى رمضان، سوف تنقل الناس من الانشغال بالسياسية، إلى الانشغال بالفن، وكانت غالبا تعنى المسلسلات وما إليها، لم أفكر طويلا، واعتذرت بأننى لا أشاهد أيًّا منها لضيق الوقت، وضيق الخلق أيضا، مع أننى أحب يحيى الفخرانى، ونور الشريف، وآخرين، لكننى استدركت معتذرًا أننى أتابع -مضطرًا- بعض الأحداث البشعة فى الأوقات الحرجة.. إلخ، ولكننى لا أعتبر ذلك مشاركة سياسية طبعا. ثم سألتها أنا بدورى: هل تعتقدين أن الذى كان جاريا قبل رمضان على الشاشة هو الدليل على أن الناس يمارسون السياسة، وبالتالى يمكن أن نقيس به مقارنة بالاهتمام بمسلسلات رمضان؟ ثم خفت أن تفهم أننى أنكر إنجازات النقلة السياسية التى نعيشها مهما كانت مضاعفاتها، فصرحت لها بوضوح فى رأيى بأن الناس عندنا بدؤوا فعلا يمارسون ما يسمى سياسة، بعد 25 يناير، حين اكتشف المواطن المصرى أن اسمه المكتوب على كارت صغير شديد الجمال، عليه صورته، كارت اسمه الرقم القومى، له قيمة حقيقية، ولو نسبية، فى أن ثمة فرصة قد لاحت ليكمل حياته «بشرًا سويًّا»، مكرمًا من ربه، محترمًا من سلطاته، هذا قد حدث فعلا فى الشارع وبين الناس، ولكن هل يمكن أن يستمر؟ هذا ما يمكن أن أعتبره سنة أولى روضة KG1 سياسة، فهل حدث مثله بين من يتصدون لتولى أمورنا، بارك الله فيهم فى هذه الأيام المفترجة؟ تعالوا نأخذ بعض العينات: أولا: ينجح رئيس جليل بتأييد ودعم وتنظيم جماعة عريقة ذات تاريخ، ويهدد أو يلوّح فى أثناء المعركة الانتخابية بأنه إن لم ينجح، فإن هذا وحده دليل على تزوير الانتخابات، ويهدد وليُّه الشاطر بأنه لو حدث ذلك (قبل التحقيق، وقبل الإثبات، وقبل الإدانة) فإنهم (الجماعة والحزب) سوف ينزلون إلى الشوارع والميادين، ولن يرجعوا إلى بيوتهم حتى يعود الحق إلى أصحابه (الحق هو: أن ينجح مرشحهم! كل ذلك قبل إجراء الانتخابات أصلا)، فهل هذه سياسة؟ ثانيا: يعلن هذا الرئيس نفسه، بعد أن نجح بالسلامة أنه لا ينتمى، أو لم يعُد ينتمى، إلى جماعته، ولا إلى حزبه، كأنه يعلن أنه ضحك عليهم وأخذ أصواتهم وخلا بهم، ثم يعلن -ربما حياء أو بناء عن توصية بعض المقربين منه الناحية الأخرى- أنه عاد إلى حزبه لا إلى الجماعة، كأن هناك فرقا. فهل هذه سياسة؟ ثالثا: يعين هذا الرئيس رئيسًا للوزراء، لا أحد يعرفه، يبدو دمثًا، ولحيته خفيفة لطيفة، ووجهه سمح، ويشاهد الكرة، وليس عضوا فى أى ألتراس (على حد علم الناس)، فيصرح هذا الوزير بفخر شديد أنه لم ينتم عمره إلى أى حزب سياسى، فليطمئن الجميع أنه ليس سياسيًّا ولا حاجة (يعنى ليس إخوانيًّا، ولا حرًا ولا عدالة ولا أيها حاجة)، هل يا ترى كان يقتدى برئيسه الذى عينه، أم أنه كان يريد أن ينفى الإشاعة التى تقول إنه كان عضوًا فى لجنة السياسات إياها؟ سواء كان هذا أو ذاك، فما بلغنى هو أنه كان يتبرأ من الانتماء -ولا مؤاخذة- إلى أى حزب سياسى، يا تُرى هو جاء يدير شؤوننا (ولا أقول يحكمنا، فأنا لا أعرف مَن يحكمنا) بأمارة ماذا؟ فهل هذه سياسة؟ رابعا: يواصل معظم المعارضين الحريصين على مصلحة الوطن، كلٌ بطريقته، تحذير رئيس الدولة، ورئيس الوزراء من الاستحواذ، والأخونة، حتى لا يكون كل الفريق أو أغلبه من الحزب أو المحبين للحزب الحاكم، أو المتشبهين بالجماعة، أو المصلين فى مساجدهم، أو المستلهمين مبادئهم سرًا وعلانية، ويبدو لأول وهلة أن هذا مطلب عادل جدًّا يقصد به الاستفادة من كل الخبرات، والاستعانة بكل الاتجاهات للقيام بواجبات لا يستطيع أن يقوم بها فصيل واحد هو موضع شبهات بلا حصر، والعجيب أن يأتى هذا المطلب من معارضين شرفاء يخافون على البلد من مصير يرونه مجسدًا فى نماذج مجاورة وغير مجاورة لا تسر، والأعجب أن تكون الاستجابة الرسمية والوعود المعلنة هى فى نفس الاتجاه، استجابة ألخّصها بالعامية فلم أجد أبلغ منها، يتكرر صدورها من الرياسة تقول «حاضر، من عينيا، بس كده؟!»، أى والله! فتموع الأمور أكثر فأكثر، ويختفى الاختلاف الخلاّق، لا أقول نتيجة للإرضاء بمكاسب شخصية، مادية أو سلطوية، وإنما نتيجة للتعاون القُبُلاتى (من القُبُلات) وأحيانا الصلاة جماعة، تقبل الله. فهل هذه سياسة؟ قلت للمذيعة بصراحة إن الذى كان يجرى قبل رمضان، وقبل المسلسلات، لم يكن سياسة، ولكن كان كلامًا حول السياسة، كان رطانا يستخدم أبجدية تبدو سياسية بشكل أو بآخر، وإن السياسة هى وعى ومشاركة فاعلة ظاهرة وباطنة. ولهذا حديث آخر.