في أغسطس الماضي كتبتُ في مقالي «بالمصري» بمجلة آخر ساعة عن مصر باعتبارها وطن التلاوة، ذلك البلد الذى وُلدت فيه الأصوات التى لا تزال تهزُّ وجدان الأمة كلما انطلقت بالقرآن أو الابتهال. واليوم، وأنا أتابع برنامج التلاوة الذى أطلقته الدولة ضمن جهودها لإحياء هذا التراث الروحى، أُدرك أن ما كتبته لم يكن سوى مقدمة بسيطة لمسيرة كبيرة تتجدد أمام أعيننا. فهذا البرنامج الذى تقدمه باقتدار الإعلامية آية عبدالرحمن لا يأتى كمسابقة عابرة أو نشاط موسمى، بل كمشروع وطنى يعيد لمصر دورها الأول: بلد المقرئين، ومنبع الصوت الذى إذا تلا... أصغى له العالم. لقد أكدتُ سابقًا أن التلاوة ليست أداءً صوتيًا فحسب، بل هوية وروح وثقافة. واليوم يثبت برنامج التلاوة هذه الحقيقة، إذ يفتح أبوابه أمام أبناء القرى والنجوع والمدن، ليكشف كنوزًا كانت مخفية بين جدران البيوت والزوايا الصغيرة. شبابٌ لم يسمع بهم أحد، فإذا هم يقفون بثبات أمام لجنة الاستماع، يجلجل القرآن فى حناجرهم، وكأنهم امتداد طبيعى لعبدالباسط والمنشاوى ورفعت والنقشبندى. يأتى هذا البرنامج ليؤكد أن مصر ما زالت تحتفظ بأسرار صوتها؛ وأن الأجيال الجديدة، رغم ضجيج العصر، تحمل فى صدورها بقايا من ذلك النور القديم. فالأداء الهادئ الذى يلمس القلب، والنَفَس المطمئن، والتمكن من المقامات، كلها مواهب تظهر اليوم من جديد، مصقولة بالإيمان، محفوظة بالفطرة. وما يميز هذا البرنامج أنه لا يكتفى بالاكتشاف، بل يقدّم رعاية وتعليمًا وتوجيهاً يحول الموهبة من مجرد صوت جميل إلى قارئ حقيقى، يتذوق القرآن قبل أن يتلوه، ويتعلم أصول المدرسة المصرية فى الأداء والترتيل. إن ما نراه اليوم ليس مجرد إحياء لتراث، بل هو تأسيسٌ لمستقبل؛ مستقبلٍ تُحفظ فيه هوية الصوت المصرى، ويعود فيه القرّاء الجدد ليحملوا الرسالة نفسها التى حملها الكبار: أن التلاوة فنٌّ ورسالة، وأن الصوت حين يخرج من قلبٍ صادق، يصبح أقرب إلى الدعاء منه إلى الأداء. وهكذا، يواصل برنامج التلاوة ما بدأته مصر منذ عشرات السنين: البحث عن الصوت الذى إذا قرأ... أصغى له العالم.