رغم مرور أكثر من خمسة عقود على حرب أكتوبر 1973 لا تزال أصداء الهزيمة التى منيت بها إسرائيل حاضرة فى الذاكرة الجماعية لشعبها، تتجلى أحيانًا لا فى تصريحات السياسيين أو مذكرات الجنرالات فحسب، بل فى كلمات الأبناء الذين ورثوا تركة ثقيلة من مرارة الهزيمة، شهادات أبناء قادة إسرائيل العسكريين آنذاك التي ظهرت مؤخرا تكشف حجم الصدمة والانكسار النفسى، بينما يقرأها الخبراء العسكريون المصريون باعتبارها الدليل الأقوى على عظمة ما تحقق فوق رمال سيناء. ◄ آسى ديان: والدي عاش ليالي طويلة بلا نوم بعد الهزيمة ◄ «أكتوبر» اعتراف بأن «أسطورة ديان» انتهت على ضفاف القناة بينما كان الجنود المصريون يقاتلون بصلابة على الضفة الشرقية للقناة، كان فى تل أبيب أبناء القادة يرون بأعينهم آباءهم منكسرين، هذا التباين بين مشهد النصر فى القاهرة ومشهد الانكسار فى تل أبيب يبرز أكثر ما تعنيه حرب أكتوبر، لم تكن مجرد انتصار عسكرى، بل إعادة كتابة التاريخ النفسى لشعوب المنطقة. ◄ أبناء القادة.. مرآة لصدمة الآباء اليوم بعد أكثر من نصف قرن تظل شهادات أبناء القادة الإسرائيليين وثائق حية على أن أكتوبر لم يكن «حرب الأيام الستة» بنسخة مقلوبة، بل كان حربًا غيّرت موازين المنطقة. كلمات الأبناء تعكس حجم الهزيمة أكثر مما تفعل وثائق الأرشيف أو تقارير اللجان. آسى ديان «نجل وزير الدفاع الإسرائيلى آنذاك موشيه ديان» ربما كان الأكثر صراحة بين أبناء القادة، فقد صرح فى أكثر من مناسبة بأن والده «لم يستطع أن يواجه الهزيمة النفسية قبل العسكرية»، مشيرًا إلى أن حرب أكتوبر كسرت صورة الجيش الإسرائيلي الذى لا يُقهر، ليس فى نظر العرب فقط، وإنما فى الداخل الإسرائيلى. كلمات آسى كانت بمثابة اعتراف بأن «أسطورة ديان» انتهت على ضفاف القناة. ولم تكن صدمة موشيه ديان وحده، بل انتقلت إلى أسرته، آسى أكد أن والده كان يعيش ليالى طويلة بلا نوم بعد الهزيمة، وأنه اعترف فى دوائر ضيقة بأن خططه فشلت، بعض الصحف العبرية وصفت ديان آنذاك بأنه «بطل بلا مجد»، وهى العبارة التى ترددت لاحقًا فى أحاديث آسى، لتؤكد أن الجرح كان أعمق من مجرد هزيمة عسكرية. ◄ اقرأ أيضًا | كيف غير انتصار أكتوبر مفاهيم الحروب الحديثة؟ اللواء د. محمد الغباري مدير كلية الدفاع الوطنى الأسبق يرى أن اعترافات أبناء القادة الإسرائيليين تحمل قيمة مضاعفة؛ فهى صادرة عن شهود من الداخل بعيدين عن حسابات السياسة، وأضاف: «عندما يقول نجل بارليف إن خطه انهار، فهذا يساوى عشرات التقارير العسكرية، لأنه يخرج من بيت صاحب القرار نفسه». ومن جانبه يعتبر اللواء نصر سالم الخبير الاستراتيجى أن هذه الاعترافات دليل على أن الهزيمة لم تكن مجرد خسارة معركة، بل كسرت الروح المعنوية للجيش والشعب الإسرائيليين. وأوضح أن إسرائيل نجحت عبر سنوات فى صناعة صورة الجيش الذى لا يُقهر، لكن أبناء القادة أنفسهم يقرّون بأن تلك الصورة انهارت تمامًا فى أكتوبر، ما تورده شهادات الأبناء يثبت أن الهزيمة تركت أثرًا نفسيًا طويل المدى على المجتمع الإسرائيلى، لدرجة أن بعض أبناء القادة عاشوا شعور «العار» لسنوات، ويؤكد أن هذه النقطة جوهرية فى فهم كيف أعادت مصر والعرب تشكيل ميزان القوى فى المنطقة. يؤكد العميد محيى نوح قائد المجموعة 39 قتال أن كل شهادة من أبناء القادة الإسرائيليين تمثل وثيقة دامغة على نجاح مصر فى كسر معادلة الردع الإسرائيلية. ويضيف أن هؤلاء الأبناء عاشوا فى بيوت قادة الحرب، ورأوا الهزيمة عن قرب، وبالتالى فإن شهاداتهم تنسف أى محاولات لتجميل ما جرى. ويرى أن الأهم من ذلك هو أن هذه الاعترافات تؤكد أن نصر أكتوبر لم يكن فقط ضربة عسكرية، بل كان نقطة تحول استراتيجية أجبرت إسرائيل على مراجعة عقيدتها القتالية، وهو ما انعكس لاحقًا فى اتفاقية كامب ديفيد. ◄ اعترافات تفتح أبواب التاريخ اللافت أن كثيرًا من هذه الاعترافات لم تأت في السنوات الأولى بعد الحرب، بل ظهرت لاحقًا عندما شعر الأبناء بحرية أكبر في الكلام. آسى ديان تحدث فى التسعينيات، بينما يائير إليعازر كتب بعد سنوات طويلة، وأشكنازى صرّح وهو فى موقع المسئولية، هذا التتابع الزمنى يكشف أن حرب أكتوبر ظلت جرحًا مفتوحًا لم يلتئم، وأن الأجيال الجديدة فى إسرائيل ورثت مرارتها.