منذ أكثر من عشرة قرون، وشارع المعز لدين الله الفاطمى يقف شامخًا فى قلب القاهرة، لا كأثرٍ صامت، بل كوثيقة حية تنبض بتاريخ الأمة الإسلامية، تسرد فصولها الحجرية من الدولة الفاطمية حتى عهد محمد علي.. هنا، فى هذا الشارع الممتد من باب الفتوح شمالًا حتى باب زويلة جنوبًا، لا تسير الأقدام فقط، بل تتقاطع الأزمنة وتتجاور العصور، فتتفتح أمام الزائر عوالم من الفنون المعمارية والروحانية التى تُدهش العيون وتُثرى الوجدان. في هذا الملف الخاص، تعود «الأخبار» بالزمن فى رحلة استكشافية مصوّرة من «قلب القاهرة التاريخية»، توثق ما جرى من جهود تطوير وصيانة، وتنقل رؤى الخبراء حول التحديات والمقترحات، وتفتح نافذة تطل على ماضٍ لا يُقدّر بثمن، وحاضرٍ نابض بالهوية، ومستقبلٍ يُصاغ من الحكايات والحوارات بين الحجارة والإنسان. ◄ قبة نجم الدين أيوب.. من صمتِ الموتى تخرج دروسُ الحياة لم يكن المكان مجرد أحجار مرصوصة على أطلال قصرٍ فاطمى قديم، بل مشهدًا تاريخيًا صامتًا يحمل فى قلبه صوتَ معركة، ووصيةَ سلطان، ووفاءَ امرأة، هكذا وُلدت مدرسة وقبة نجم الدين أيوب، التى احتضنت بين جدرانها أول مجمع علمى دينى لتدريس المذاهب السنية الأربعة فى القاهرة، وضمّت رفات سلطان مات فى ساحة الحرب، فعاد إلى قاهرة المعز لا على صهوة جواد، بل بين جدران مدرسة بنتها له زوجته شجرة الدر. عام 1243م، وضع السلطان الصالح نجم الدين أيوب حجر الأساس للمدرسة، كخطوة لترسيخ الفكر السنى فى مواجهة المذهب الفاطمى الذى ظل حاضرًا منذ قرون، وبعد وفاته خلال مقاومة الحملة الصليبية، جاءت شجر الدر لتجمع بين الإخلاص الشخصى والمشروع السياسى، فشيدت له قبة ضريحية ملاصقة للمدرسة عام 1250م، لتصبح أول منشأة من نوعها تمزج بين العلم والخلود. ■ مسجد نجم الدين أيوب ما تبقى من هذا الصرح اليوم هو واجهته المزينة بنقوش خط النسخ، ومئذنته الشهيرة ب»المبخرة» ذات القبة المضلعة، وقبته المذهّبة التى تُبهر الناظرين بمحرابها المغطى بالفسيفساء الذهبية والرخام المنمنم، كأنها قطعة من السماء سقطت على الأرض، كل زاوية فيه تنطق ببراعة الحرفيين فى العصر الأيوبى، وكل ظل فيه يحمل عبق السجود الأول. بين 2017 و2021، خضع المجمع لترميم دقيق بتكلفة 15 مليون جنيه، فى تعاون بين وزارة الآثار وبرنامج الأممالمتحدة الإنمائى، أُصلحت الشروخ، وأُعيدت الألوان للنقوش الباهتة، ونُصبت إضاءة فنية تعيد القبة والمئذنة إلى الحياة كل مساء، لم تعد المنطقة محيطة به كما كانت؛ تحوّلت إلى ممرات هادئة للمشاة، وامتزج التراث مع الحاضر ضمن مشروع «القاهرة التاريخية». لم يكن الأثر يومًا جدارًا ولا محرابًا، بل صوتًا ينادى عبر القرون أن نحفظ الذاكرة من التآكل، وكما قال أحد المرشدين خلال جولة إرشادية: «هنا يتنفس التاريخ، وعلينا ألا نسمح لهذا النفس أن ينقطع». ◄ قصر الأمير بشتاك.. النحاس يشدو بأغانيات التاريخ! بعض الأبنية لا تقف على الأرض فقط، بل تعلو فوق الزمن.. وقصر الأمير بشتاك واحد من تلك المعالم التى لا تُشاهد بل تُسمع، كأن جدرانه تحفظ نغمات مرت عبر القرون، وانتظرت من يُنصت. يقع القصر عند منعطف هادئ من درب قرمز فى شارع المعز، شُيّد عام 1339م بأمر من الأمير سيف الدين بشتاك الناصرى، أحد رجالات الناصر محمد بن قلاوون، فجاء تحفته المملوكية تعكس ذروة البذخ والذوق الفني، واجهاته مزدانة بالنحاس الأحمر، الذى كان يعكس أضواء الشموع ليلاً كأن النجوم قررت الهبوط لتضىء الطريق، ونوافذه الخشبية المزخرفة ب»المشربيات» سمحت للنساء أن يشاهدن الحياة دون أن تُشاهدهن.. ■ قصر الأمير بشتاك من الداخل رغم أن الأمير لم يقطنه طويلاً، إلا أن القصر ظل حيًّا بوظيفته الثقافية، كملتقى للفكر والفن والسياسة، جدرانه النحاسية لم تكن مجرد زينة، بل مرآة لمكانة ساكنه، وقاعاته كانت تستقبل الضوء من الزجاج الملوّن لتصنع مشهدًا كالحلم.. كأن العمارة هنا ليست صامتة، بل تغنّى.. اليوم، وبعد ترميم أحيا ملامحه، تحول القصر إلى «بيت الغناء العربى»، مساحة تنبض بالموسيقى والحنين، يقول أحمد كهرمان، من سكان المنطقة: «هنا صُوّرت مشاهد من أفلام تاريخية، وغنّى عبد الحليم فى ساحته، واليوم تُقام ورش الغناء الصوفى والعربى وكأن النحاس لا يزال يردّد الألحان القديمة». ◄ مسجد الأقمر.. تحفة فاطمية بلون القمر! يروى كل حجر فى شارع المعز قصة من عصور بعيدة، ويبرز جامع الأقمُر كشاهدٍ حى على عبقرية العمارة الفاطمية، فى عام 519 هجريًا (1125 ميلاديًا)، وعلى مرأى من الخليفة الفاطمى الآمر بأحكام الله، كان قد أُمر ببناء هذا الجامع العظيم، وتولى الوزير المأمون البطائحى المهمة، ليُسجل فى تاريخ القاهرة أول مسجد يتم تصميم واجهته لتتماشى مع خط تنظيم الشارع، فى خطوة جريئة مغايرة للتصميمات التقليدية، مما منحه شكلًا داخليًا فريدًا لا يُنسى.. ■ مسجد الأقمر يُحاكى الجامع جمال السماء من خلال حجارته البيضاء النقية، وسُمى الجامع بناءً عليها ب «الأقمر»، فتحت أشعة الشمس، كانت الحجارة تتلألأ وكأنها تحمل بداخلها نور القمر، لتضيء المكان وتمنحه روحًا سماوية، كان التصميم نفسه يعكس لمسة فنية خاصة، حيث لا يتوقف عن إثارة إعجاب من يراه. واجهة الجامع تتميز بزخارف هندسية دقيقة، كانت تُعتبر فى ذلك الوقت تجسيدًا لآيات فنية تحمل معانى عميقة، تم نقش «دوائر شمسية» متحدة المركز على الحجارة، بينما تزين الكلمات المقدسة بالخط الكوفي، وظهرت آيات قرآنية من سورة النور، كأنما كان المعماريون يخلقون لوحة روحية على الحجر، ليؤكدوا أن كل زاوية من زوايا الجامع هى مسعى لخلق الانسجام بين الأرض والسماء. ◄ باب الفتوح وضريح سيدي الذوق.. رحلة فوق أسوار زمن القاهرة أنتَ على موعد مع تاريخٍ عميق حين تلامس يديك جدران «باب الفتوح» المصنوعة من الحجر الجيري، تلك الجدران التى تنبض بذكرياتٍ من قرونٍ مضت، شُيد هذا الصرح الهائل عام 1087م بأمر الوزير الفاطمى بدر الجمالي، ليكون أكثر من مجرد بوابةٍ عسكرية، كان «باب الفتوح» درعًا يحمى القاهرة من غزوات الصليبيين، وجزءًا من خطةٍ دفاعية محكمة ضد أعداء المدينة، تتحدث الجدران بسماكتها التى تصل إلى 25 مترًا وفتحاتها المخصصة للسهام التى تشبه عيونًا ساهرة لا تغفل أبدًا، عن عبقرية هندسية تُمثل الفن العسكرى فى أبهى صوره، ويمكن للزوار أن يتسلقوا درجاته الحجرية الضيقة، التى صعدها فى يومٍ ما حراسٌ مشهرون المشاعل، ليدخلوا فى متاهاتٍ من الممرات المظلمة التى تبدو كأمعاء البطن، حيث الغرف السرية لتخزين الأسلحة والنوافذ الصغيرة التى كانت تُراقب منها حركة المدينة. ■ باب الفتوح من أعلى نقطة فى باب الفتوح، تتناثر الرياح برقة على النقوش التى تزين الجدران بآياتٍ قرآنية منقوشة، وينساب أمامك مشهد شارع المعز لدين الله الفاطمى كسجادةٍ مزينةٍ بتطريزات الزمن، مآذن مسجد الحاكم بأمر الله وقبة الإمام الشافعى تتلألأ فى ضوء الشمس، بينما تتحرك جموع السياح كأطيافٍ فى لوحةٍ فنية ضخمة، هذا المنظر هو خلاصة ألف عام من المعمار الفاطمي، كل عصر يترك بصمته على هذه الأسوار، التى أصبحت كتابًا مفتوحًا تروى صفحاته التاريخ. على مسافة قصيرة من باب الفتوح، يتسلل الزائر إلى زقاقٍ ضيق يؤدى إلى «ضريح سيدي الذوق»، الرجل الشهم الذى صعدت روحه إلى السماء، ليُدفن على بوابة الفتوح، كتب التاريخ تقول إنه لم يغادر مصر أبدًا، ليُطلق عليه «الذوق مخرجش من مصر»، الضريح، ذو القبة الخضراء، يُشكل عالمًا مختلفًا تمامًا، تتناغم أصداء الذكر الصوفى بين جدرانٍ قديمة، بينما يفوح من الأجواء عبير البخور، تقول إحدى سيدات المنطقة، التى رفضت ذكر اسمها: «كأن باب الفتوح بيحرسنا، هو وسيدى الذوق».. الرحلة بين هذين المعلمين ليست مجرد انتقالٍ بين مكانين، بل هى حوارٌ عميق بين قوة الحجارة ورقة الروح، ففى حين كانت أسوار «باب الفتوح» تغلق المدينة على أعدائها، كان «ضريح سيدى الذوق» يفتح أبوابه لكل طالبٍ للسلام، بعد عمليات ترميمٍ دقيقة، التى أعادت إحياء الممرات السرية وأضاءت النقوش القديمة، أصبح الموقعان وجهةً للسياح والمستكشفين الذين يبحثون عن الجمال الخفي. يقول محمد حسن، مشرف أثري: «الأسوار التى بُنيت للدفاع أصبحت الآن جسرًا بين الماضى والحاضر، نريد أن يلمس الزوار أن التاريخ ليس حجارةً ميتة، بل هو نبضٌ حيّ». ◄ الحاكم بأمر الله.. استعاد بهاءه برعاية «البهرة» على مرمى البصر من بوابة الفتوح، فى أول شارع المعز لدين الله الفاطمي، يظل مسجد الحاكم بأمر الله شاهدًا على زمنٍ كان فيه الحجر يتحدث لغةً لا يفهمها إلا العيون التى تبحث عن أسرار التاريخ، بدأ بناء المسجد فى عام 380 هجريًا (990 ميلاديًا) بأمر من العزيز بالله الفاطمي، لكنه توفى قبل اكتمال البناء، فقام ابنه الحاكم بأمر الله بإتمامه ليصبح ثانى أكبر جوامع القاهرة بعد جامع ابن طولون، وأحد أقدم المساجد الجامعة فى مصر، امتد المسجد على مساحة ضخمة تقدر ب 14 ألف متر مربع، مما جعله مركزًا هامًا للعبادة والتعليم. ■ مسجد الحاكم بأمر الله واجهة المسجد الرئيسية تبرز بين مئذنتين متناقضتين؛ إحداهما أسطوانية والأخرى مربعة، فوقها قبة مثمنة تُعانق السماء، مستوحاة من طراز مسجد المهدية التونسي، داخل المسجد، يمتد صحن مكشوف تحيط به أربعة أروقة مزخرفة بنقوش كوفية وآيات قرآنية مرصعة بالفسيفساء الذهبية، حيث تتناغم البساطة مع العظمة فى تجسيد رائع للعمارة الفاطمية، غير أن هذا المسجد لم يكن فقط معلمًا دينيًا، بل كان ساحة صراع بين الأزمان، ففى عهد الأيوبيين، أُغلق المسجد وتحول إلى مخازن وورش للنساجين، بل جُعلت مئذنتاه أبراج مراقبة خلال الحملة الفرنسية، تعرض المسجد أيضًا لدمار جزئى بسبب زلزال عام 1303م، لكن الحياة استمرت، فتم ترميمه وتحويله إلى متحف للفنون الإسلامية. وفي عام 2023، وبعد خمس سنوات من الترميم الدقيق بتكلفة بلغت 85 مليون جنيه، أُعيد افتتاح المسجد بفضل تمويل من طائفة «البهرة» الهندية، ويرى محمد العلي، طالب أزهرى أن «مسجد الحاكم ليس مجرد أثر، بل هو حكاية صمود ضد النسيان، تروى أن الجمال ينتصر دائمًا، حتى لو اختفى قرونًا تحت غبار الإهمال». ◄ مدرسة بيبرس البندقداري.. منشأة السلطان تتحول إلى بوابة زمنية للتراث السلطان بيبرس البندقداري، حين شيد مدرسته لتعليم العلوم الدينية فى قلب القاهرة المملوكية، لم يكن يتخيل أن تتحول ذات يوم إلى نقطة انطلاق لعشاق التاريخ، وبوابة زمنية تُوزّع مفاتيح الأسرار على الزائرين، المدرسة التى ارتفعت جدرانها منذ قرون لتحتضن حلقات العلم، باتت اليوم تُصغى لصوت الزائر وهو يسأل عن تذكرة، وعن خريطة تعبر به عصورًا متداخلة، من الفاطميين إلى محمد علي.. وسط زحام شارع المعز، أكبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية فى العالم، يقف هذا المبنى المتواضع فى حجمه، الجليل فى أثره، ليكون واجهةً تنظيمية ضمن مشروع «القاهرة التاريخية»، حيث استُثمرت حجارة الأمس لتخدم زوّار اليوم. يوفر مكتب التذاكر الواقع فى قلب الشارع تذكرة موحدة لاستكشاف 12 معلمًا أثريًا، من بينها مسجد الحاكم بأمر الله، وقصر الأمير بشتاك، وحمام إينال، سعر التذكرة 20 جنيهًا للمصريين، و220 جنيهًا للأجانب، مع خصم 50% للطلبة، تُتاح الزيارة يوميًا من التاسعة صباحًا حتى الخامسة مساءً، حيث تستقبل هذه المعالم آلاف المتجولين بين تفاصيل عمارة إسلامية باذخة، توثق عصورًا متداخلة على امتداد الزمن. ■ مدرسة بيبرس البندقداري رغم تغير الوظيفة، لم تفقد المدرسة ملامحها الأصلية، حافظت أعمال الترميم على واجهتها الحجرية المنقوشة بعباراتٍ تاريخية، وأروقتها التى لا تزال تحتفظ بروح العصر المملوكي، وعلى جدران المكتب، تعانق الخرائط التفاعلية والجداريات المعاصرة المخطوطات القديمة، فى مشهدٍ يجمع بين المعنى والمرور، لم يعد الدخول إلى شارع المعز مجرد عبور، بل رحلة تبدأ بتذكرة وتنتهى بدهشة. مكتب التذاكر ليس مجرد مركز خدمة، بل شهادة على كيف يمكن للتراث أن يتجدد دون أن يُفرط فى ذاته، إنه الباب الأول فى سردية طويلة، تعبر منها الأقدام، وتحفظها العيون، ويُدوّنها القلب، وكأن كل زائر، حين يمد يده ليأخذ تذكرته، يوقّع عقدًا غير مكتوب مع التاريخ: «أنا هنا لأحترم، لأتأمل، ولأتعلم». ◄ سبيل نفيسة البيضاء.. حين يصبح الجمالُ وقفًا للخير على الجانب الجنوبى من شارع المعز، بالقرب من باب زويلة، زقاق «عطفة الحمام» الضيق، المحاصر بضجيج الحياة ورائحة الزمن، يحتضن صرحًا لا يشبه سواه، سبيلٌ يتحدث باسم امرأة سبقت عصرها، تُروى من حنياه سيرةُ «نفيسة البيضاء»؛ تلك الشركسية التى جاءت جارية، وغادرت الحياة سيدةً من ذهب، فاسمها لا يُذكر إلا مقرونًا بالعطاء، عاشت فى كنف على بك الكبير، ثم أصبحت زوجة لمراد بك أحد أمراء المماليك، لكن الحكاية لم تقف عند حدود القصور، بعين ثاقبة وإرادة لا تلين، أدارت ثروتها بذكاء، فأسست وكالة تجارية، وشيّدت سبيلًا يسقى المارّة، وكُتّابًا يعلّم الأيتام، ضمن منشأة معمارية متكاملة لا تزال قائمة بجوار «باب زويلة». تصميم السبيل يأسر القلب قبل العين، واجهته نصف دائرية على الطراز العثماني، مزينة بثلاث نوافذ نحاسية كأنها ورود منقوشة فى المعدن، تسبح بزخارف نباتية رقيقة أشبه بالدانتيل، لوح رخامىّ يحمل نص التأسيس يعلو الواجهة، بينما ينساب الماء داخل أحواضٍ من الرخام، ترتوى من صهريج خفيّ تحت البناء، فوق السبيل، ينتصب الكُتّاب، مدعومًا بعقودٍ من الرخام وحجابٍ خشبى مشغول بتفاصيل دقيقة، وعلى الجدران، تمتد أبيات شعر تخلّد صاحبة الفضل، منها: «سبيل سعادةٍ ومراد عزٍّ... جرى سلساله عذبٌ فرات» ■ سبيل نفيسة البيضاء سنوات طويلة كادت تُغرق السبيل فى غبار الزمن، وسط الإهمال وتعديات الباعة الجائلين، لكن مشاريع الدولة الأخيرة لإحياء القاهرة التاريخية أعادت له الحياة، ثلاث سنوات من الترميم أعادت للزخارف بريقها، وللرخام لونه، وللمكان مكانته، اليوم، يحتل السبيل موقعًا مميزًا ضمن مسار شارع المعز، أكبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية، وتحيط به محال تبيع الشموع القديمة والتحف التراثية، بينما يلتقط الزوّار صورًا تحت أقواسه، ويتأملون تفاصيله التى تروى فصولًا من العطاء. بتذكرة لا تتجاوز العشرين جنيهًا للمصريين، يفتح السبيل بابه لزوّار يسعون لاكتشاف معمارٍ لا يُروى فقط بالحجارة، بل بروح امرأة آمنت أن الخير لا يفنى، وأن الجمال الحقيقى... ما خلُد فى قلوب الناس. ◄ السلطان الغوري.. جامع آخر سلاطين المماليك لم تكن نهايات الدول دومًا خالية من العظمة؛ ففى الجانب الآخر من شارع الأزهر، ينهض مسجد السلطان الغورى كأنما يحاول تثبيت الزمن فى لحظة مجد، بين النقوش والزخارف، تختبئ رسالة سلطانٍ استشعر الغروب، فاختار أن يُخلّد اسمه ببصمة معمارية تفيض بالفن والورع، بُنى هذا المجمع الدينى عام 1503م، ليجمع بين العبادة والعلم، بين الجمال وغاية البقاء. كأثرٍ حىّ لآخر أمجاد المماليك قبل أن تطويهم صفحة العثمانيين، شُيّد بأمر من السلطان قانصوه الغورى، كأنما أراد أن يترك بصمته الأخيرة فى ذاكرة القاهرة، فأنشأ مجمعًا دينيًا وتعليميًا يضم مسجدًا ومدرسةً وسبيلًا وكُتابًا، ليجعل من الحجر وقارًا ومن الفن رسالة. ■ مسجد السلطان الغوري تخطف الواجهة الحجرية الأنفاس بتفاصيلها الهندسية المتقنة، بينما ترتفع مئذنتاه بتصميمٍ غير مألوف يلمّح لمرحلة الانتقال من طراز المماليك إلى النمط العثمانى القادم من بعيد، وتحت سقفٍ خشبى مذهب، محفورٍ بزخارف نباتية تُشبه الحدائق المعلقة، كان العلماء يشرحون أمهات كتب الفقه والحديث لطلابٍ قدموا من أطراف العالم الإسلامى. على مدار ثلاث سنوات، بين 2018 و2021، خضع المسجد لعملية ترميم دقيقة بتكلفة بلغت 15 مليون جنيه، بالشراكة بين وزارة الآثار وبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي، أعيد تنظيف الأحجار وتذهيب الزخارف، وزُود المكان بإضاءة ليلية تبرز جماله كأنما يستيقظ ليروى حكايته لمن يمر، امتد التجميل إلى محيط المسجد، ضمن مشروع «القاهرة التاريخية»، بتوسعة ممراته وتخصيصها للمشاة، وإزالة التعديات التى شوهت وجهه لسنوات. من ناحية أخرى، تتحدث آنا مانويل، سائحة ألمانية، وهى تتأمل النقوش بزهو: «هذا المسجد تحفة تنتمى إلى الإنسانية كلها، تفاصيله تسلب الوقت من الذاكرة»، قبل أن تُضيف: «لكن الحفاظ عليه ليس مسؤولية القاهرة وحدها، بل مسؤوليتنا نحن أيضًا كزائرين نحترم ما نرى». ◄ للثروة وطن يحميها.. خبراء الآثار: متحف مفتوح يحتاج خطة إنقاذ عاجلة «شارع المعز سجل حى لتطور الفن الإسلامي» بهذه العبارة المكثفة بدأ الدكتور جمال عبد الرحيم، أستاذ الآثار الإسلامية، حديثه مشيرًا إلى ما يحمله الشارع من قيمة تراثية استثنائية تمتد من العصر الفاطمى حتى العثماني، وأضاف: «منذ عام 2004، ومع انطلاقة مشروع البنية التحتية، شهدنا تحولاً ملحوظًا فى توجّه الدولة نحو الاهتمام بالآثار الإسلامية، أصبح مسار أهل البيت، بدءًا من السيدة نفيسة مرورًا بزين العابدين وزينب ، ومحورًا أساسيًا فى البرامج الوطنية، لما يحمله من رمزية دينية وثقافية تسهم فى تعزيز السياحة الدينية. وتابع مؤكدًا: «لقد أدركت الدولة أهمية الحفاظ على تراثنا الإسلامي، حيث خصصت مشاريع كبرى مثل تطوير شارع باب الوزير والدرب الأحمر وسوق السلاح.. هذه الجهود تسعى إلى إحياء ذاكرة القاهرة التاريخية وربط الماضى بالحاضر، مما يرسخ الهوية الحضارية للبلاد. واعتبر أن وعى المواطن هو ركيزة أساسية فى الحفاظ على هذه المشروعات: «سلوكنا الواعى وحبنا لتراثنا يجعلان من كل زيارة لهذه المعالم شهادة على حرصنا الجماعى فى صون ما تركه الأجداد لنا من إرثٍ لا يُقدّر بثمن، إن التدفق السياحى الكبير، وخاصة من زوار أوروبا، يدل على مدى جاذبية هذا المسار وتأثيره الإيجابى على الاقتصاد الوطنى وعلى تعزيز الحوار بين الحضارات». ■ شارع المعز وختم حديثه قائلاً: «استمرار هذا الاهتمام بالآثار الإسلامية يكرّس قيم الإيمان والانتماء، ويعزّز صورة مصر كوجهة ثقافية وتاريخية ذات روح متجددة بين الماضى العريق والحاضر المشرق». أما الدكتور عبد الرحيم ريحان، عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، فقد وصف شارع المعز بأنه الشارع الأثرى الوحيد فى العالم الذى يحتضن أقدم وأجمل آثار إسلامية على جانبيه، مسجّلة ضمن التراث الثقافى العالمى باليونسكو منذ عام 1979. وأوضح: «الشارع يبدأ من باب زويلة حتى باب الفتوح بطول 1200 متر، ويمتد شرقًا إلى شارع الجمالية، ويتقاطع مع شارعى جوهر القائد والأزهر، ويمثّل قلب القاهرة التاريخية النابض». واستعرض الجهد الكبير الذى قامت به وزارة السياحة والآثار فى تطوير المعالم الممتدة على طول الشارع، من جامع الحاكم بأمر الله، والجامع الأقمر، إلى مجموعة السلطان قلاوون، وسبيل محمد علي، ووكالة نفيسة البيضاء، مرورًا بعشرات المعالم الأخرى، فضلًا عن امتدادات الشارع نحو بيت السحيمى ووكالة بازرعة. وفى إطار رؤيته المستقبلية، اقترح د. ريحان: «إنشاء مراكز معلومات سياحية بالشارع، على غرار مركز المعلومات المزمع إنشاؤه ضمن مشروع التجلى الأعظم بسانت كاترين، بشكل يتوافق مع طبيعة الشارع وآثاره، تتضمن هذه المراكز بيع منتجات أثرية طبق الأصل وإصدارات الوزارة الرقمية، مع وجود موظفين يجيدون اللغات لتوجيه الزوار والسياح». وأضاف: «لابد من إنشاء بوابات أمن مزوّدة بأجهزة تفتيش عند مداخل الشارع، ومنع دخول السيارات نهائيًا، مع توفير سيارات كهربائية 'جولف كار' لتسهيل الجولات السياحية». وعن المخاطر الكامنة، قال:»يجب إزالة إشغالات الشارع التى قد تؤدى إلى كارثة فى حال اندلاع حريق، خاصة وجود مخازن بها مواد قابلة للاشتعال وأخشاب مكدسة على الأسطح، نحتاج إلى نظام إنذار مبكر وإطفاء تلقائي، وتدريب العاملين على التعامل مع الأزمات». كما دعا إلى: «تنشيط ورش الحرفيين من نحاسين وخيامية وغيرهم، وتوفير الخامات وإعفائها من الجمارك، إلى جانب إنشاء مدارس لتدريب أطقم جديدة لحماية الحرف من الاندثار». وختم مشددًا: «هناك تحديات كبيرة ما زالت تهدد الشارع، أبرزها المخازن، وتشوين البضائع والأخشاب، واستخدام أنابيب البوتاجاز، وأخيرًا مستلزمات الشيشة، كما هو الحال بعد تأجير مقعد ماماى الأثرى بالجمالية وتحويله إلى مطعم يُصرّح فيه بتقديم الشيشة،هذا كلّه يهدد الآثار فى غياب أنظمة إطفاء وتدريب حقيقى على التعامل مع الأزمات». أما الدكتور أحمد عامر، الخبير الأثري، فلفت إلى أهمية التفرقة بين القاهرة التاريخية والقاهرة الخديوية، قائلًا: «القاهرة التاريخية أقدم، وهى التى تعود إلى العصر الفاطمي، وتضم معالم مثل شارع المعز، والقلعة، وباب زويلة، وباب الفتوح، والحسين، والأزهر، أما القاهرة الخديوية فقد أسسها الخديو إسماعيل عام 1863، ومن أبرز معالمها ميدان التحرير وقصر النيل وشارع محمد فريد». وأضاف: «شارع المعز هو أكبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية على مستوى العالم، وهو أحد مكونات القاهرة التاريخية، ومصر تمتلك تنوعًا أثريًا لا يوجد فى أى مكان آخر، من الإسلامى إلى المسيحي إلى اليهودي، فضلًا عن آثار الحضارة الفرعونية». وختم قائلًا: «الدولة تسعى لإعادة مجد الماضي من خلال تطوير القاهرة التاريخية والخديوية بمشروعات عملاقة، تساهم فى تحسين الهوية البصرية لهذه المناطق، واستعادة رونقها التاريخي.»