فى زمنٍ بعيد قادنى الفضول إلى «كليلة ودمنة». كنتُ طفلاً مفتوناً بأفلام «كارتون» أبطالها من الحيوانات، واعتقدتُ أن الكتاب الشهير الذى ترجمه ابن المقفع قبل مئات السنين، سيمنحنى المزيد من الإثارة، لكننى فوجئتُ بعالم مختلف لم ينجح فى احتوائي. بعد سنوات علمتُ أن هذه الحكايات ذات الأصل الهندى كانت سلاحاً ابتكره الكبار لمعارضة حُكّامهم، وهم يتخفّون وراء حكمٍ ثورية على ألسنة حيوانات الغابة، لتبدو ذات ملامح طفولية. أعتقد أن الوقت مناسب لاعترافٍ متأخر نسبياً، هو أننى شعرتُ بجفاء نحو الكتاب الذى طالما احتفى به المثقفون، ربما لأن أثر الانطباع الأول لا يزول، أو لأننى أصبحتُ مقتنعاً بأن الاختباء وراء أقنعة الرمز لم يعُد يناسب تطور الفكر البشري، غير أن القطيعة بدأتْ تتراجع قبل أيام، مما ينبئ بمعاهدة سلام تاريخية، تحت رعاية الروائى الكبير إبراهيم عبد المجيد، الذى أعاد إحياء القصص القديمة عبْر سردٍ جذاب لحكايات «كليلة ودمنة»، فاختار أربعاً منها ليعيد صياغتها بأسلوب يمزج البساطة بالعمق، ترويها الإعلامية المتميزة منى الشايب بأداء يحيلنى إلى أجواء ألف ليلة وليلة. التجربة التى تبنّاها «محكى شهرزاد»، أعادتْنى إلى فلك إبراهيم عبد المجيد، بعد سنوات فراق اضطراري، منعتْ لقاءاتنا المباشرة وإن لم تُبعدنى عن أدبه، لهذا جاء لقاؤنا حميمياً ذات سحور، استعدنا خلاله ذكريات لقاءات تجاوز عمرها ربع القرن، ودارتْ حول كواليس الساحة الثقافية التى تُعز من تشاء، وتطيح بأحلام من تشاء، ولا ينجو من دواماتها إلا من تسلح بالموهبة الحقيقية والإصرار على المقاومة، وهو ما فعله الروائى الكبير عبر إبداعات تصدّتْ لمحاولات الإقصاء، فخرج فى النهاية منتصب القامة بكتاباته، ولم يكتف بذلك، بل بدأ مغامرته الجديدة مع التراث، وقدّم سرديات تستخرج من الماضى عوامل جاذبيته. أتمنى ألا تقتصر التجربة على الحكايات الأربع، وأن تمتد إلى بقية قصص «كليلة ودمنة»، لإثبات أن المُتعة لا ترتبط بتاريخ انتهاء صلاحية!