فى عصور سابقة، كان الدخان دائمًا ابناً بارًا لنارٍ تلفظ أنفاسها، أو شراراتٍ تستحضر روحها تحت الرماد، من هنا ابتكر أحدهم مقولة: لا دخان بلا نار، التى انتقلت بسلاسة من أرض الواقع إلى لُغة المجاز، لتقع بعد ذلك على الحافة بين الشك واليقين، عندما نجح البشر فى إطلاق قنابل شائعاتهم، وهكذا اخترعوا دخانًا بدون نيران! اهتم البشر بالدخان، والطريف أن الاهتمام الأكبر جاء من السحرة والدجالين، وفى الوقت نفسه من المتخصصين فى العلوم الإنسانية، بل إن الباحثين الجادين اعتمدوا على أساليب السحرة فى إلهاء ضحاياهم، وابتكروا نظرية «الدخان والمرايا»، التى استخدمها رجال السياسة بنجاح منقطع النظير، فى تشتيت انتباه العامة وخلق واقع وهمي، يتحول إلى منصة للتفاوض حول فكرة لم تكن قابلة للطرح من الأساس، تمامًا مثلما فعل الرئيس الأمريكى، عندما بدأ الترويج لمخطط تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، ورغم أن المبدأ غير قابل للنقاش من الأساس، فقد تلقفه قادة الاحتلال ولعبوا على حباله، ليشغلوا الرأى العام بفكرة مرفوضة، ونجد أنفسنا مطالبين بابتكار حل بديل لمشكلة مصطنعة. فى الظروف العادية، يُسهم الوعى فى نزع فتيل قنابل السحرة والسياسيين، لكن الواضح أن البنية الأساسية للبشر صارت هشة، وبدلاً من البحث عن الحقيقة، أصبح الاستسلام للمعلومات المضللة ملاذًا للكثيرين، يكتفون بما تُمليه عليهم مواقع التواصل الاجتماعى من اقتباسات مجتزأة، ويبدأ كل منهم فى استعراض عضلات أفكاره، دون أن ينتبه إلى أن الهدف هو إشعال الفتنة وبث روح الفرقة بين أوطاننا. كثيرًا ما دافعتُ عن حق كلٍ منا فى التعبير عن رأيه، مهما خالف الرؤى الشائعة، بشرط أن تعتمد وجهة النظر على البحث عن النص الأصلى موضوع الجدال، غير أن ما يجرى حاليًا تجاوز حدود حرية الرأى إلى فوضى امتلاك اليقين الكاذب. الخلاصة أن البشر اكتشفوا النار منذ القدم، فكانت نقلة مهمة على طريق الحضارة، والآن يستخدمون دخانها لتكريس البربرية!