تزخر الحضارة المصرية القديمة بروائع فنية تمثل مزيجًا من الإبداع الفني والتعبير الديني، ومن بين هذه الروائع، يبرز تمثال النبيل "با مر نب"، أو كما يُعرف أيضًا باسم "باشنبو"، الذي يعكس التفاني الديني والمكانة الرفيعة للكهنة في مصر القديمة. هذا التمثال، المصنوع من الحجر الجيري والمطلي بطبقة من الجص الملون، يُعد واحدًا من أجمل المنحوتات التي تجسد الروحانية والولاء للمعبود الأعظم آمون رع. يظهر "با مر نب" في وضع الجثو على ركبتيه، مقدمًا ناووسًا على هيئة الكبش المقدس لآمون رع، في مشهد يُجسد الطقوس النذرية التي كانت تُقام في المعابد، بملامحه الهادئة وملابسه الكهنوتية الطويلة، يعكس التمثال تفاصيل دقيقة تعكس الحرفية العالية للنحاتين المصريين، يعود التمثال إلى عصر الدولة الحديثة، الأسرة التاسعة عشرة (1292 - 1190 ق.م.)، وتم العثور عليه في دير المدينة، وهو معروض حاليًا في متحف تورينو بإيطاليا. يستعرض هذا التقرير تفاصيل التمثال، ودلالاته الرمزية، ودوره في العقيدة المصرية القديمة، مع تسليط الضوء على حياة النبيل "با مر نب" وأهميته الدينية. ** النبيل "با مر نب" ووظيفته الكهنوتية - مكانته الدينية ودوره في معبد الكرنك شغل "با مر نب" وظيفة الكاهن الأول للمعبود آمون رع، وهو أحد أعلى المناصب الدينية في مصر القديمة. كان الكهنة في معبد الكرنك يتمتعون بنفوذ كبير، حيث كانوا مسؤولين عن الطقوس اليومية والاحتفالات الكبرى، وكانوا يُعدون حلقة الوصل بين الإله والشعب. ككاهن أول، كان "با مر نب" يؤدي الطقوس المقدسة ويشرف على تقديم القرابين والصلوات. وقد عُرف آمون رع بكونه الإله الأعظم في الديانة المصرية خلال الدولة الحديثة، وكان يُنظر إليه باعتباره الإله الخالق وحامي الفراعنة. ولذلك، فإن تقديم تمثال لبا مر نب وهو يقدم ناووس الكبش يعكس ولاءه الكامل لهذا الإله. ** الوصف الفني للتمثال - المادة والتقنية المستخدمة يتميز التمثال بأنه مصنوع من الحجر الجيري، وهو أحد أكثر الأحجار استخدامًا في النحت المصري القديم. ولإضفاء مظهر أكثر واقعية، غُطي التمثال بطبقة من الجص الملون، وهي تقنية شائعة في فن النحت المصري لإبراز التفاصيل الدقيقة وإضفاء الحيوية على القطع الفنية. - الوضعية والتفاصيل الرمزية الوضعية: يظهر "با مر نب" جاثيًا على ركبتيه، وهي وضعية توحي بالخضوع والتقديس، وغالبًا ما كانت تُستخدم في تماثيل الكهنة وكبار المسؤولين عند تقديم القرابين. الملامح: يتمتع التمثال بملامح هادئة تعكس الوقار والروحانية، مع دقة نحت الوجه والشعر المستعار الذي كان شائعًا بين الكهنة في ذلك العصر. الملابس: يرتدي النبيل ملابس كهنوتية طويلة، مما يشير إلى رتبته الدينية الرفيعة ودوره في الطقوس المقدسة. الناووس والكبش: يحمل "با مر نب" ناووسًا على هيئة الكبش، وهو أحد تجسيدات آمون رع. كان الكبش يرمز إلى القوة والإخصاب والحماية، لذا فإن تقديمه في الطقوس النذرية كان يُعد من أسمى مظاهر التقديس. اقرأ ايضًا|أصل الحكاية| فن النحت في عصر الدولة القديمة.. عبقرية الإبداع وتجسيد الخلود ** دلالات التمثال في العقيدة المصرية القديمة - آمون رع والمعتقدات الدينية كان آمون رع يُعد الإله الأعلى في الدولة الحديثة، حيث اندمج مع رع ليصبح "آمون رع"، إله الشمس والخالق الأعظم. وكان يُعتقد أن آمون رع يمنح القوة للملك ويحمي مصر من الأعداء، مما جعله محور العبادة الرسمية. - التماثيل النذرية ودورها في الطقوس مثل هذا التمثال كان يُستخدم في الطقوس النذرية والتطهيرية، حيث كان الكهنة يقدمون القرابين للإله لضمان الرخاء والحماية. ووضعية الجثو أثناء تقديم الناووس تشير إلى الطاعة الكاملة للإله آمون رع، بينما يرمز الكبش إلى الخصوبة والقدرة الإلهية على التجديد. ** الاكتشاف والأهمية الأثرية - العثور على التمثال في دير المدينة تم العثور على هذا التمثال النادر في دير المدينة، وهي المنطقة التي كانت مخصصة لسكنى الحرفيين والنحاتين الذين عملوا في بناء مقابر الفراعنة في وادي الملوك. ويشير وجود التمثال في هذه المنطقة إلى أن الكهنة وربما الحرفيين كانوا يكرسون أنفسهم لعبادة آمون رع، مما يؤكد مدى انتشار هذه العبادة حتى بين الطبقات المختلفة في المجتمع. - حفظ التمثال وعرضه في متحف تورينو يُعرض التمثال حاليًا في متحف تورينو بإيطاليا، وهو واحد من أبرز المتاحف المتخصصة في الآثار المصرية. يعد هذا التمثال جزءًا مهمًا من مجموعة تورينو الأثرية، حيث يعكس مدى براعة الفنانين المصريين القدماء في الجمع بين الجمال الفني والدلالات الدينية العميقة. ** الفن الديني في الدولة الحديثة - أساليب النحت والتقنيات الفنية شهدت الدولة الحديثة تطورًا ملحوظًا في فن النحت، حيث أصبح الفنانون أكثر دقة في تصوير الشخصيات بأسلوب طبيعي ومثالي في آنٍ واحد. وكان التركيز على التفاصيل الرمزية مهمًا، كما هو الحال في تمثال "با مر نب"، حيث تبرز: التعبيرات الهادئة: التي تعكس القوة الداخلية والتفاني الديني. دقة التفاصيل في الملابس والشعر: مما يعكس مهارة النحاتين. تناسب الأبعاد: الذي يجعل التمثال متوازنًا ويعكس واقعية الشكل. يعد تمثال النبيل "با مر نب" واحدًا من أروع القطع الأثرية التي تعكس العلاقة الوثيقة بين الفن والدين في مصر القديمة. فهو ليس مجرد تمثال، بل هو شاهد على دور الكهنة في خدمة المعابد، وتجسيد لمكانة آمون رع كأهم الآلهة في الدولة الحديثة. من خلال دراسة هذا التمثال، يمكننا فهم كيف كان المصريون القدماء يستخدمون الفن للتعبير عن الإيمان والعبادة، وكيف كان النحت أداةً قويةً في نقل المعتقدات والتقاليد الدينية عبر الزمن. ولا يزال هذا التمثال اليوم يمثل نافذة مفتوحة على عظمة الحضارة المصرية القديمة، حيث تتجسد الروحانية والجمال في قطعة حجرية تحمل بين طياتها إرثًا خالدًا لا يُقدّر بثمن.