في خضم الأحداث المتلاطمة، والصاخبة، والهادرة، التي نعيشها علي مدار الساعة، يحتاج الإنسان إلي لحظة سكون يلتقط فيها أنفاسه، ويستجمع فيها شتات عقله المبعثر، ويرجع فيها إلي نفسه لإعادة ترتيب أوراقه واهتماماته وإنجازاته وإخفاقاته ودوائر عمله المتشابكة والمتقاطعة مع اهتمامات العشرات والمئات من الأشخاص من حوله، لحظة صافية يستجم فيها الذهن والنفس من الأثر المحير والمشوش والمربك النابع من الصخب والأحداث، ويعيد فيها تلميع ذهنه وفكره، وإزالة الغبار والركام والصدأ عن النفس، ويعيد ضبط زوايا ذاته ووجدانه بعد هذا الكم الهائل من الاعوجاجات والضغوط والتدبير والتفكير وترجيح المواقف بعضها علي بعض، حتي ترجع النفس إلي حالتها المثلي مرة أخري في إنسانيتها وسموها وبشريتها، وتبتعد مرة أخري عن حالة الشراسة والذئبية التي تتلبس نفس الإنسان نتيجة منازعة الناس لتحقيق مصالحه ومقاصده، والتي ترسخ في وجدانه قناعة عميقة بأنك إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، فيظهر هذا في المعاملات المالية، وانتزاع المصالح، ومزاحمة الناس بعضهم بعضا في الطرقات وقيادة السيارات وغير ذلك، فكان لابد من لحظة سكون يميط الإنسان فيها عن نفسيته هذا الغبار الكثيف الذي يتسرب إلي طبعه ونفسيته نتيجة اندفاعه وانجرافه في حركة حياته الصاخبة، ليعيد تجديد عهد نفسه بالإنسانية وكرم النفس وسخاء الطبع، إنها لحظة سكون تمثل دورة سنوية يفتح فيها الإنسان كشوف حسابه، ويعيد تقييم أدائه، ويعيد النظر في عشرات الطباع والأخلاقيات والمفاهيم والقناعات الكامنة بداخله والتي تعرضت علي مدي شهور سابقة لحالة حادة من المنازعة والأنانية والأثرة والتعالي والظلم، فتشوهت وانبعجت وتحورت حتي حولته إلي كائن شديد التمحور حول ذاته فقط، وعبادة ذاته فقط، والدوران في فلك تحقيق راحته هو فقط، إنها لحظة تشبه قطرات ماء جاءت للإنسان وهو في حالة ظمأ شديد حارق، وقد جف حلقه ولسانه وباطنه، واشتعل فؤاده بحرقة الظمأ، حتي كادت روحه تزهق وتموت، ثم فجأة جاءته رشفات ماء بارد محبب، فهو يرتشفه قطرة قطرة حتي لا يؤذيه، لكنه شديد الاحتياج إليه، مدرك بعمق مدي احتياجه إليه، إنها تلك اللحظة النادرة من السكون، لحظة سكون يتسامي فيها الإنسان عن حالته البشرية الطينية الكثيفة المعتمة، التي تتولد فيها العلل النفسية وتنمو فيها قيم الأنانية والأثرة والطمع والعدوان، فيتسامي الإنسان في تلك اللحظة عن هذه الظلمات ويجتهد في أن يرتقي إلي أفق رحيب من الطهر والسكون والبصيرة النافذة والحس الرفيع الذي يجعله إنسانا بحق، عنده الحد الأدني من مقومات الإنسانية فلا يفجر في خصومة، ولا يمنع حق إنسان كميراث بنت أو شقيقة، ولا يقاطع شخصا كبيرا طاعنا في السن فيتركه ينزوي وحده ليذوق ألم الموت البطيء مرات في ظل انصراف كل أقاربه عن الاتصال به والاطمئنان عليه، إنها لحظة سكون ترجع بالإنسان إلي الزمن الجميل الذي لا يتعامل فيه من الصلاة والصوم والتراويح والصدقات بصورة مظهرية يبالغ فيها في الصدقة والبر، ثم تبقي النفس من داخل تمتليء بالصدأ والغبار. وتئن تحت أطباق من المطامع والأهواء الجامحة، إنها لحظة سكون شريفة منيرة صادقة، تبدد كل مظاهر التشوه في النفس الإنسانية، وتعيد إليها الاتساع والرحابة والطهر، والكرم، ولين الجانب، وتجدد ثقة في ذاته، وتطرد الهواء المتغير الراكد في أعماق باطنه حتي يتسرب إلي باطن الإنسان شيء من النسيم والروح والريحان، فيعرف من جديد جلال الألوهية، وجلال يوم القيامة والعرض والحساب بكل هيبته وجلاله، ويعرف جلال معني الإنسانية وروعته، بل جلال معني الحياة في ذاتها، وقدسية الحياة في ذاتها، في الإنسان أو الحيوان أو النبات وأقول بل في الجماد، وتستنير تلك المعاني الجليلة من جديد أمام عينيه، وتشرق من جديد أمام عينيه، بعد أن بهتت بشدة طوال الفترات السابقة من حياته، نعم إنها لحظة سكون الحياة بعد الموت، وقد جاء وقت كشف اللثام عن تلك اللحظة، يا تري ما هي؟ وأنا أعلم أنك سوف تقول لي: لقد حيرتنا معك، وطال الكلام جدا حتي مللنا في وصف تلك اللحظة فما هي تلك اللحظة، وكفي إسهابا في المقدمات وأخبرنا مباشرة بما تريد، وأقول لك بكل سرور: إن تلك اللحظة الغريبة العجيبة الفائقة، هي شهر رمضان، نعم، شهر رمضان المعظم الجليل المهيب العظيم، الذي جعله الله جل جلاله جامعا وممثلا ومحملا بكل تلك المعاني السابقة من أول المقال، وأرجو منك الآن أن ترجع لقراءة المقال من أوله بهذه العين، وأن تنظر إلي رمضان بهذه العين، وأن تدرك بعمق أنه فرضه الله جل جلاله وقد أراد أن يجعله سببا يوصلنا إلي تلك الآثار، وحشد الله فيه عددا ضخما من معالم البر والعبادة والإحسان والتهذيب لكي يصنع في أعماق الإنسان تلك المعاني السابقة، وإذا جاء رمضان وانقضي ولم يحدث في النفوس هذا التغيير والتحول فقد أدي الإنسان فيه فريضة وأبرأ ذمته بين يدي الله جل جلاله من التقصير والتفريط فيها، لكنه لم يحلق مع مقاصده وأهدافه وآثاره المطلوبة، نعم إن رمضان هو تلك اللحظة الصافية من السكون، بما يتيح وجود حراك صاخب في أعماق النفس بالتهذيب والترميم والتعديل والتقويم لكل ما تشوه أو انحرف من معالم إنسانيته وسموه، فإذا بكل الغبار الكثيف المنهمر طوال شهور وأسابيع قد انفتحت النوافذ لطرده وتبديده وإزالته، وإعادة تطهير الباطن وتعقيمه وتجديده وصيانته وشحذه، إنها لحظة السكون والسكينة والبصيرة التي نزل فيها القرآن بجلاله وطهره وإعجازه، هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان، ولا أرجو الآن منك سوي إعادة قراءة المقال من أوله مرة ثانية، حتي تكتمل الصورة، وسلام علي الصادقين.