مكتبة تمثل منارة للثقافة العربية في عاصمة النور، غير أن الظروف التي تحيط بها صعبة وتزداد صعوبة. عندما نرتبط بموضع ما فإننا نحب الطرق المؤدية إليه. مكتبة ابن سينا من مقاصدي الأساسية في باريس منذ أن صحبني إليها أخي المرحوم علي الشوباشي والذي كان نِعم الصاحب والرفيق، كان ذلك عام تسعة وسبعين في القرن الماضي، تقع في مواجهة جامعة باريس الخاصة بمنطقة جيسو، وعلي مسافة قصيرة جداً من معهد العالم العربي، أحفظ مواقع مكتبات باريس خاصة تلك التي تقع في الحي اللاتيني، مكتبة ابن سينا كان لها مقران ، الأول للكتاب الفرنسي، والثاني للكتاب العربي، الترتيب هنا طبقاً للأولوية الزمنية، عندما وصلت إلي باريس أول فبراير لحضور البرنامج الإعلامي المواكب لصدور الترجمة الفرنسية لكتابي »دنا فتدلي« وهو الدفتر الثاني من مشروع روائي طويل بدأته في منتصف التسعينيات وكل دفتر مخصص لموضوع بعينه، الثاني متعلق بالقطار في حياتي وكما أراه أقرب الموجودات إلي رمزية الوجود، ترجمه إلي الفرنسية ترجمة رائعة إيمانويل فرلييه والمشرف حالياً علي سلسلة جديدة للأدب العربي عن دار لوسوي الكبري وهذا حدث ثقافي غير مسبوق سأتوقف عنده فيما بعد، صدر في السلسلة روايتان أدبيتان، الأولي »فاصل للدهشة« لمحمد الفخراني وكان أول ظهور له في جريدة »أخبار الأدب«، أما الثانية للعراقي علي بدر، وعنوانها »بابا سارتر«. أقصد مكتبة ابن سينا عبر طريقين، الأول بوليفار سان جرمان، والثاني بوليفار ريزدي كول، هذه المرة أخبرني إيمانويل أن المكتبة أصبح لها مقر واحد، إذ عاد صاحبها هاشم معاوية إلي المقر الأصلي بعد أن ضاق مجال توزيع الكتاب العربي نتيجة أسباب عديدة، الكتاب التراثي الذي يعتمد عليه طلاب اللغة العربية أصبح متاحاً علي الانترنت مجاناً في العديد من المواقع، أيضاً الأزمة الاقتصادية التي تمر بها معظم دول الاتحاد الأوروبي وتبدو تداعياتها في باريس من خلال أسر كاملة تفترش الطرقات في أرقي الأماكن، وكثيرون من هؤلاء جاءوا من دول أوروبا الشرقية، ولكن الفرنسيين الذين تسوء أحوالهم المادية يزداد عددهم حتي أن الطوابير التي تنتظم أمام المتطوعين من الجمعيات الخيرية التي توزع الشوربة الساخنة والخبز مجاناً تتزايد باستمرار، كانت ظاهرة الإقامة في الشارع مقصورة قبل سنوات علي أولئك الذين يرفضون المجتمع ويقيمون علي هامشه، منهم مثقفون ومهنيون، منذ سنوات خرجت مبكراً في الصباح الباكر وكان الثلج يغطي الأرصفة، رأيت رجلاً يرقد بينه والمفارقة أن ذلك أمام متجر شهير للملابس. في فرنسا جمعيات خيرية تعتمد علي التطوع والتبرعات لتقديم الطعام وأحياناً تفتح إدارة المترو الأنفاق لإيواء الهائمين علي وجوههم خاصة أن المحطات مزودة بأنظمة للتدفئة، لاحظت هذه الظاهرة في الولاياتالمتحدة، خاصة في مدينة شيكاجو القوية اقتصادياً، الصارمة معمارياً، ويُعرف هؤلاء بالهوم لس، أي من لا بيوت لهم، تداعيات عديدة في ذهني وأنا متوجه للقاء هاشم معاوية مؤسسة مكتبة ابن سينا، أحد أهم المراكز الثقافية العربية في أوروبا. مقصد الباحثين هاشم من المثقفين الموسوعيين، لا يعرض الكتب فقط، لكنه يُعرف بمضامينها، يتحمس لهذا النص وينتقد ذاك، من هنا هو طرف أصيل، والزيارة له تعني الانغماس في مناقشات شتي، معه أو مع زواره الُكثر، ممن التقيت بهم عنده محسن مهدي رحمه الله الباحث العراقي الكبير، الذي أوقف جُل عمره وجهده لدراسة ألف ليلة وليلة من خلال أقدم نصوصها المخطوطة، ولأني من دعاة ألف ليلة والمضروبين بها فقد تابعت صدور بحثه القيم والمصحوب بأقدم نصوصها منذ منتصف الثمانينيات الماضية، ولأن الناشر الهولندي »بريل« ليس له وكيل في مصر، فقد ظللت أبحث خلال أسفاري، حتي قصدنا تونس أنا وصاحبي يوسف القعيد ومضينا لزيارة أشهر مكتباتها »سحنون« والتي تقع في شارع هولندا عند حدود القصبة القديمة، وتلك من أغني المكتبات العربية، عرفت صاحبها حتي رحيله عن الدنيا. في المكتبة وجدنا طبعة »بريل« التي حققها ودرسها محسن مهدي، اشتري كل منا نسخة، فرغم تبادلنا الكتب، إلا أن اقتناء النص المرغوب يتجاوز العلاقات العميقة، وكثيراً ما يستعير يوسف كتباً مني ويتناساها، ولا أنكر أنني أبادله التناسي بمثله. كتبت عن تحقيق محسن مهدي لأقدم المخطوطات لهذا النص الروائي العظيم، ربما أعظم ما أنتجته البشرية وللأسف يهمله أهله، غير أن تعرفي بمحسن مهدي كان فرصة ثرية للحوار خاصة أنني عرفته بعد طبعي لألف ليلة وليلة طبعة كلكتا في سلسلة الذخائر التي أسستها زمن حسين مهران وفارقتها بعد خلاف شهير حول طبع ديوان أبو نواس كاملاً الذي أصدرته مصر في الخمسينيات وتحملته ولم تتحمله في مطلع هذا القرن. وكانت النتيجة أن طبعها ناشر عراقي يمتلك داراً شهيرة للنشر ويحتل موقعاً مهماً في حكومة العراق بعد الغزو أعاد نفس الطبعة التي حققها الألمان ونشرها، وهي نفس الطبعة التي صودرت في القاهرة، الطبعة المصرية ثمنها عشرون جنيها، أما الطبعة العراقية فتتجاوز الثلاثمائة جنيه وهي المتداولة الآن. محسن مهدي من أكبر الأساتذة الذين عرفتهم عن قرب وأغزرهم علماً بألف ليلة وليلة، كان أستاذاً في الجامعات الأمريكية الكبري، ثم استقر في باريس، استأجر غرفة صغيرة قريبة من مكتبة ابن سينا التي أصبحت مقره ومكتبته، حتي أن هاشم خصص له مكتباً وركناً يلتقي فيه بمريديه، أما الشخصية الأخري التي التقيت بها فهو عبدالله الشيخ موسي من المغرب ويعمل أستاذاً بالسوربون متخصصاً في الفلسفة الإسلامية وكان ذلك في عام ثمانين وهو أول من لفت نظري إلي خصوصية كتاب الإشارات الإلهية للتوحيدي، وقد عكفت علي دراسته والتعمق في كل ما كتب وهو من الأدباء المغضوب عليهم في التراث العربي مثل أبو العلاء المعري وابن عربي والراوندي، أي أنبغ من أنجبت الثقافة العربية. في أوائل التسعينيات دعوت إلي احتفال مصر بأبي حيان التوحيدي وقرر وزير الثقافة وقتئذ فاروق حسني إقامة المؤتمر وبالتأكيد كان أكبر وأهم مؤتمر أقامته وزارة الثقافة وكان بمثابة إعادة ميلاد الأديب العظيم الذي أحرق كل ما كتب في نهاية عمره، وحققت ما وعدت به إذ أعدت طبع »الإشارات الإلهية« بتحقيق عبدالرحمن بدوي، أصدرته في سلسلة الذخائر وكان ثمنه ثلاثة جنيهات، كنت أخطط لإصدار تحقيق آخر قامت به الدكتورة وداد القاضي لنفس الكتاب ولكن لم يتم ذلك بمغادرتي للإشراف علي السلسلة التي قبرت بعد ذلك رغم استمرارها في الصدور، رغم تولي أسماء كبيرة الإشراف عليها إلا أنهم آثروا الأمن والأمان الفكري وهذا مقتل للفكر إذ جنحوا إلي إصدار التراث المألوف الذي لا يثير مشاكل أو يستفز المتشددين ، انتهت السلسلة مع سائر سلاسل الهيئة خاصة خلال تولي رئيس الهيئة الحالي سعد عبدالرحمن الذي تم التمديد له بعد بلوغه المعاش للأسف! الشخصية الثالثة التي عرفتها في المكتبة، كان عبدالرحمن بدوي، وكنت أعرف ظروفه، إذ سافر إلي ليبيا ثم إلي الكويت وانتهي به المطاف إلي باريس حيث أقام في غرفة متواضعة فوق سطح فندق لوتسيا القريب من المكتبة، كان يتردد عليها يومياً ورغم إعجابي بآثاره العلمية خاصة فيما يتعلق بالجوانب المجهولة في التراث، إلا أنني كنت عند رؤيته أتجنب الحديث إليه فقد سمعت حكايات عديدة عن عصبيته وعدوانيته، وحنقه غير المفهوم علي مصر والمصريين، كنت أخشي ردة فعل غير لائقة لن أقبلها من أي شخص كان، وفي إحدي المرات كانت ترافقني زوجتي ماجدة وعندما لمحته أقبلت عليه مرحبة، ماجدة دارسة للفلسفة، كانت منفعلة إذ رأته، قدمها إليه هاشم، قال إنها صحفية في الأهرام، وما إن سمع اسم الصحيفة حتي انتفض زاعقاً إنه لا يتحدث مع أي صحفي لا من الأهرام أو غيرها، إلا أن رد فعل ماجدة كان مختلفاً، إذ خاطبته بود قائلة إنها فرحة للقائه وأنه أستاذ أساتذتها، وأنها لا تسعي إلي حوار صحفي، إنما تحييه فقط، أخذته باللين وبدأ الرجل يرق شيئاً فشيئاً حتي قبل دعوتها إلي فنجان قهوة في مقهي مجاور وكان يبدو رث الحال، مهملاً وأمضي بصحبة ماجدة أكثر من ساعة وعندما عادا إلي المكتبة كان يبدو كطفل وكانت تتأبط ذراعه، في معرض الكتاب لا أذكر العام، وقفت الدكتورة فاطمة بودي متحدثة إلي الرئيس الأسبق مبارك، قالت إن أوان تكريم الدكتور عبدالرحمن بدوي يجب أن يحل، تحدثت عنه بإسهاب، وبعد أسابيع كان هاشم معاوية في الطريق إلي مصر عندما التقي الدكتور عبدالرحمن بدوي في الدرجة الاقتصادية بالطائرة، قام إلي كبير المضيفين وسأله: هل تعرف من بين ركاب الطائرة؟، حدثه عن الرجل وقيمته وفضله علي الثقافة العربية، قام كبير مضيفي الطائرة المصرية بالتوجه إليه ودعاه إلي الانتقال إلي الدرجة الأولي، لكنه أبي بإصرار، غير أنه أمضي بقية رحلته محاطاً برعاية خاصة، يقول هاشم إنه كان يتردد يومياً علي المكتبة، يمكنك أن تضبط الساعة علي دخوله في العاشرة، ثم يتجه إلي المكتبة الوطنية القريبة من الأوبرا حيث يمضي بقية يومه، لكن المكتبة ليست لقاءات فقط، إنما مضمونها الأساسي كتب، فماذا كنت أجد فيها ولا أجده في غيرها؟ كتب.. كتب مكتبة ابن سينا في باريس، هاشم صاحبها له علاقات مع جميع الناشرين من المغرب إلي الخليج، لذلك تصب عنده مطبوعات لا يتاح لنا وجودها في مصر لصعوبة انتقال الكتاب العربي، أيضاً الكتب العربية المطبوعة في إيران، وتلك حركة نشر مهمة جداً يغلب عليها العناية بالمصادر التراثية العربية التي لم تعد تقبل عليها دور النشر بعد صعود المد الإخواني. منذ سنوات وجدت كتاباً ضخماً من عشر مجلدات لآخر فيلسوف عظيم في الإسلام، صدر الدين الشيرازي، وأعرفه من خلال مؤلفات أخري اعتاد ناشر سوري أن يمدني بها في كل عام، جمال نصار، ولم أجده في معرض العام الحالي، وقفت متردداً أمام الحكمة المتعالية، مشكلة الكتب عند السفر في الوزن، الورق من الخشب، من أثقل المواد، إلا أن الحاجة إلي الكتاب تفوق حاجة الإنسان إلي الدواء، لذلك قررت أن أحمله حتي لو أدي الأمر إلي ترك ملابسي، صففته في حقيبة جلدية ليست كبيرة الحجم، قوية، فصلها لي صاحب عزيز من قدماء خان الخليلي، رف متحرك لكنه مغطي، المهم ألا أنوء بالحِمل، في أوروبا حركة نشر للكتاب العربي بدأت منذ اختراع المطبعة في القرن السادس عشر، أقدمها في بريل بهولندة، وروما، وباريس، وليبزج، وفي الخمسينيات قام محمد قاسم الرجيب بإعادة إصدار هذه المطبوعات بالتصوير، ومنها نفائس كان يمكن ألا نقف عليها مثل »مذكرات التاجر سليمان« أحد مصادر ألف ليلة، معظم ما يصدر بالعربية في أوروبا يمكن أن تجده عند هاشم، في هذه الزيارة الأسبوع الماضي عدت بثلاثة كتب ضخمة، الأول كتالوج لمعرض أقيم عام ثمانية في معهد العالم العربي عن بونابرت في مصر ويضم لوحات نادرة غير موجودة في وصف مصر، ومجموعة وثائق نادرة، أحرص دائماً علي اقتناء الكتب المصاحبة للمعارض التي أشهدها في أي مكان بالعالم، ليس لأنني أحتفظ عندي بصور ونصوص لما رأيته، إنما لتقديم فن طباعة هذه الكتالوجات بحيث يمكن اعتبار كل منها متحفاً مصغراً في المتناول، الكتاب الثاني عن الدروز، كتبه شيخ المستشرقين الفرنسيين سلفستر دي ساسي منذ حوالي مائتي وعشرين عاماً، وكثيراً ما كنت أقرأ عنه في المراجع التي تناولت الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي لارتباطه الوثيق بهذه العقيدة، لكنني لم أعثر عليه لأنه لم يترجم، الكتاب يقع في ألف صفحة، ترجمة عيسي طنوسي، صدر في دمشق عام أحد عشر، أي منذ ثلاث سنوات، وصدر عن الدار الوطنية الجديدة، الكتاب الثالث عن المنسوجات الإسلامية في العالم الإسلامي، هاشم معاوية يبدي كرماً بالغاً لمن يقدرهم، غير أن الرجل لا يقف في سبيل خيري ، إنما في مكتبة تواجه ظروفاً صعبة، منارة حقيقية في قلب باريس للثقافة العربية، ولو كان في العالم العربي من يقدر قيمة الثقافة لساند مكتبة ابن سينا بشتي الوسائل حتي لا يغلق أحد فرعيها بينما الآخر يجاهد في ظروف صعبة. التبرع لمستشفي القلوب الأربعاء: أثار ما ذكرته الأسبوع الماضي أصداء واسعة حول احتياج مستشفي الدكتور مجدي يعقوب إلي جهازين ضروريين لعمليات القلب المفتوح، اتصل بي رجل أعمال من بورسعيد وأبدي استعداده للتبرع بخمسين ألف جنيه، واستفسر عن طريقة دفع المبلغ، نصحته بإرساله مباشرة إلي المستشفي مع إيضاح أن هذا التبرع للجهازين اللازمين للمستشفي وقد ذكرت مواصفاتهما في المقال، وأعتذر لكل من أبدي استعداده عن قبول أي تبرعات، الكاتب مهمته أن يقترح فقط، أما جميع ما يتعلق بالأمور المالية فمن اختصاص رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير، مع امتناني لكل من أبدي المساهمة في أروع مشروع إنساني يجري تنفيذه علي أرض مصر. الإشارات الإلهية الجمعة: تعتبر رسالة الغربة في كتاب الإشارات الإلهية للتوحيدي من أروع ما قرأت في الأدب الإنساني وسأنشرها كاملة في اليوميات علي أسابيع متوالية.. سَأَلْتَني رَفق اللّهُ بك، وعَطَف عليّ قلبك أن أَذكر لك الغريب ومحَنَه، وأصفَ لك الغُرْبة وعجائبها، وأَمرّ في أَضعاف ذلك بأسرار لطيفَة، ومَعانٍ شريفة، إمّا مُعَرِّضاً، وإمّا مُصَرِّحاً، وإما مُبَعّداً وإما مقرِّباً. فكنت عليّ أَن أُجيبك إلي ذلك، ثم إني وجدت في حالي شاغلاً عنك، وحائلاً دونك، ومُفَرِّقاً بيني وبينك. وكيف أَخفِضُ الكلام الآن وأَرْفَع، وما الذي أَقول وأَصنع، وبماذا أَصبر، وعلي ماذا أجزع؟ وعلي العلات التي وصفتها والعورات التي سترتها أَقول: إنّ الغريبَ بحيثُ ما حَطَّتْ ركائِبُه ذليلُ ويدُ الغريبِ قصيرةٌ ولسانُه أَبداً كليلُ والناس ينَصُرُ بعضهم بعضاً، وناصِرُه قليلُ وقال آخر: وما جَزَعاً مِنْ خَشْية البَيْنِ أَخْضَلَتْ دُموعي، ولكنَّ الغريبَ غريبُ يا هذا: هذا وصفُ غريبٍ نأَي عن وطنٍ بُنِيَ بالماء والطين، وبَعُد عن أُلاَّف له عَهْدُهم الخشونة واللين، ولعله عاقرهم الكأسَ بين الغُدْران والرياض، واجتلي بعينه محاسن الحَدَق المِراض، ثم كان عاقبة ذلك كله إلي الذهاب والانقراض، فأين أنت عن قريب قد طالت غربتهُ في وطنه، وقلّ حظه ونصيبه من حبيبه وسَكنَه؟ وأين أنت عن غريب لا سبيل له إلي الأوطان، ولا طاقة به علي الاستيطان؟ قد علاه الشحوب وهو في كِنّ، وغلبه الحزن حتي صار كأنه شَن: إن نطق نطق خزيان منقطعاً، وإن سكت سكت حيران مرتدعاً، وإن قرب قرب خاضعاً، وإن بَعُدَ بَعد خاشعاً، وإن ظهر ظهر ذليلاً، وإن تواري تواري عليلاً، وإن طلبَ طَلَبَ واليأسُ غالبٌ عليه، وإن أمسكَ أمسكَ والبلاء قاصدٌ إليه، وإن أصبح أصبح حائلَ اللون من وساوس الفِكْر، وإن أمسي أمسي مُنْتَهَبَ السر من هَواتك السِّتْر، وإن قال قال هائباً، وإن سكت سكت خائباً، قد أكله الخمول، ومَصَّه الذبول، وحالفه النحول، لا يتمني إلا علي بعض بني جنسه، حتي يفضيَ إليه بكامنات نفسه، ويتعلل برؤية طلعته، ويتذكر بمشاهدته قديمَ لَوْعَته، فينثر الدموع علي صحن خده، طالباً للراحة من كده. وقد قيل: الغريب مَنْ جَفاه الحبيب، وأنا أقول: بل الغريب من وَاصَلَهُ الحبيب. (البقية الأسبوع القادم)