ما بين عامي1854 و1902 عاش عبد الرحمن الكواكبي حياة من الثورة رفض خلالها كثيرا وأحتج أثناءها علي تصرفات المستبد العثماني, وكان فقيها ومحاميا وإصلاحيا وكتب رائعته الخالدة طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد, فكانت راصدة لعصره, كاشفة لكل مستبد بعده. وما يعنيني أن الكواكبي توقف كثيرا أمام صناعة الاستبداد أكثر من آثارها فهو يقول:لا يخفي علي المستبد, مهما كان غبيا, أن لا استعباد إلا مادامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل, وتيه عماء, فلو كان المستبد طيرا لكان خفاشا يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل, ولو كان وحشا لكان ابن آوي أي الثعلب- يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل, ولكنه هو الإنسان يصيد عالمه جاهله. فالحمق السياسي والجهل بفنون التفاوض والتضحية بالمشاركة الإيجابية تصنع المستبد الذي لا يري في مرآته إلا من يقترب من عرشه ثائرا تحت الطلب, ومعارضا بالبدل, ومناقشا صامتا بلا مقاطعة. ولا أقصد بكلامي مستبدا قائما ولكني أري أننا الذين نصنع الاستبداد, داخلنا بالرفض التام لكل الأشياء, وأمامنا بالانسياق لتشويه ثورتنا وتوبيخ شعاراتنا, ووراءنا بالاختلاف والتصارع علي السلطة وليس طلبا للإصلاح, فنسجن ذاتنا التي تسعي لتأكيد أهداف الثورة مع ذات من نهيئه للاستبداد بنفس شعار استكمالها. وما بين قناع الدين وأوهام الديمقراطية يزداد المستبد افتراسا وتتفتح شهيته للمزيد من الدماء مادامت من غير فصيلة الذين يوالونه سمعا وطاعة والذين ينافقونه طمعا في المناصب والحصانة ويلخصها الكواكبي في عبقرية قائلا: لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد, المختصة ما بين الإنسان وربه, لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة, إنما يتلهي بها المتهوسون للعلم, حتي إذا ضاع فيها عمرهم, وامتلأتها أدمغتهم, وأخذ منهم الغرور, فصاروا لا يرون علما غير علمهم, فحينئذ يأمن المستبد منهم كما يؤمن شر السكران إذا خمر. علي أنه إذا نبغ منهم البعض ونالوا حرمة بين العوام لا يعدم المستبد وسيلة لاستخدامها في تأييد أمره ومجاراة هواه في مقابلة أنه يضحك عليهم بشيء من التعظيم, ويسد أفواههم بلقيمات من مائدة الاستبداد. ولا يقرب المستبد من مجلسه عالما ولا قاضي عدل ولا فقيه سياسة لأنه علي دراية بحقه وحقوق غيره من المظلومين المقهورين ولهذا يقول الكواكبي: ترتعد فرائص المستبد من أصحاب العلوم التي تكبر النفوس, وتوسع العقول, وتعرف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها. إنه المستبد كما رآه الكواكبي الذي مات متأثرا بسم دس له في فنجان قهوة قبل أكثر من110 أعوام وهي صورة ما تزال تتكرر في ولادة طبيعية أو قيصرية لمستبد جديد باسم الديمقراطية وشرعية الصندوق, تعيد إلي الأذهان ما قيل للكواكبي قبل وفاته: يا شيخ عبد الرحمن.. الأمور لا تستقيم هكذا, وقلب السلطان غير راض عنك!