كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خارجًا من المسجد، فاعترضه أحد الأعراب ثم دعا قائلًا: «اللهم ارحمنى ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا».. كان الدعاء غريبًا وصادمًا للنبى صلى الله عليه وسلم الذى اعتاد أن يدعو للناس جميعًا ويشملهم برعايته ومحبته ويرجو الخير للدنيا كلها جيلًا وراء جيل. ولكن ماذا يملك النبى إزاء سذاجة وضيق أفق هذا الأعرابى وفرط تعصبه، سوى الضحك والتعقيب على قوله بحكمة تلقائية رائعة: »لقد ضيقت واسعًا يا أخا العرب. لقد ضيق الأعرابى رحمة الله الواسعة التى وسعت كل شيء،الناس والطير والحيوان والجماد والخلق كله، فهى أوسع من كل شيء .. فبهذه الرحمة ترفع الدابة العجماء بفطرتها حافرها عن وليدها خشية أن تؤذيه.. ويطعم الأسد أولاده دون أن يفكر مرة فى التهامهم مهما استبد به الجوع. فالضيق ليس فى رحمة الله ولن يكون أبدًا فى رحمته سبحانه «ورحمتى وسعت كل شيء». وليس الضيق أيضًا فى فرص الحياة التى تكفل الله فيها بالرزق الوفير والحلال للجميع، ولا فى أرزاق الناس، ولا فى قلة كراسى السلطة أو المناصب، فكلها تسع جميع الكفاءات والكفايات. ولكن الضيق يكون فى القلب الأسود الذى يريد أن يستأثر وحده بكل شيء.. وفى النفس الجشعة التى تتمنى الخير لنفسها وطائفتها أو أتباعها فحسب ولا ترجوه للآخرين. ففرص الحياة واسعة وكثيرة ولكن النفوس المظلمة هى التى تؤثر نفسها وتظلم غيرها.. وتريد أن تستأثر بكل شيء وتحرم غيرها من كل شيء ولا تكتفى بذلك بل تسعد به. فالمشكلة فى تلك النفوس التى تظن أن الدين ملك لها دون سواها حصريًا.. وأنها المتحدث الحصرى والوحيد عن الإسلام.. أو تلك التى تظن أنها أفضل الناس والمستحق الوحيد لرحمات الخالق وجوائز السماء دون سواها.. أو تلك التى تحتقر غيرها ولا تعتبره جديرًا بالخير والسعة والرزق الوفير والمرتب الجيد والحياة الهانئة أو التدين أو المناصب. إن عدد الوظائف والمناصب وفرص السلطة ومقاعد الصلاح والخير يمكن أن تكفى الجميع.. ولكن بعضنا يحرم غيره منها مقلدًا مثل هذا الإعرابى وسائراً على نهجه. إن أنانية هذا الأعرابى توجد الآن عند أكثر الناس.. وجفاء وغلظة هذا الإعرابى زحفت على قلوب ونفوس الكثيرين هذه الأيام ..ولم يعد يسلم من أخلاق هذا الأعرابى إلا القليل.. فالجميع يضيق ما وسعه الله على عباده.. ويريد أن يستأثر دون غيره برحمات الدنيا، وإن استطاع أن يقف بوابًا على أبواب الجنة والنار لأدخل النار منافسيه السياسيين أو الاقتصاديين أو الدينيين أو المذهبيين. إننا نعيش اليوم زمن »نحن ومن بعدنا الطوفان«.. ومادمت لن أستفيد من المطر فلا نزل القطر.. وإذا جعت فلا شبع أحد.. وإذا عطشت فلتظمأ الدنيا كلها.. وإذا تألمت فلتمرض الدنيا كلها.. وإذا زال سلطانى وجاهى فلتذهب الدنيا كلها إلى الجحيم. وأصابت هذه اللوثة أيضًا أولئك الذين يظنون أنهم احتكروا الدين وحدهم.. وأصابت الذين يظنون أنهم احتكروا الوطنية دون سواهم.. وآخرين ظنوا أنهم احتكروا الحق والحقيقة وحدهم.. وكذلك الذين احتكروا الثروة والمال والمناصب دون سواهم.. أو أولئك الذين يتمنون الشر لبلادهم لأنهم لا يحكمونها ويحكمها غيرهم. هؤلاء جميعًا لا يحبون إلا أنفسهم ولا يدورون إلا حول ذواتهم.. ولا يعبدون إلا «الأنا». إن إرادة الخير للآخر تكاد تكون غير موجودة الآن.. إن السعادة والخير هى كالحب لا يكون من طرف واحد.. بل لا بد أن يكون مشاركة بين اثنين.. والحياة ملأى بفرص السعادة والأمن والراحة للجميع.. ولكننا دوما نضيق ما وسعه الله علينا.. ونستحق جميعًا أن يقال لنا «لقد ضيقتم واسعًا».