اهتمَّت الشريعة بما تقوم عليه حياة الناس، ولا بد منه لاستقامة مصالحهم ومعاشهم؛ بحيث لو فُقِد أو اختلّ، اختل نظام الحياة معه، وعمت الفوضى، وانتشر الفساد، ويتمثل هذا فيما يعرف بالمقاصد الضرورية للشريعة، أو (الكليات الخمس) كما سماها العلماء، وهي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال. ولكل واحد منها أحكام قُصِدَ بها العمل على إيجاده والمحافظة عليه. فالدين شرع لإيجاده وجوب الإيمان كما شرع العبادات. وللمحافظة عليه شرع الجهاد، ومعاقبة المرتَدّ ومَن يبتدع فى الدين فيُحرِّف أحكامه، كما أوجب الاستعداد الدائم لأعدائه بكل قوة ممكنة، والنفس شرع لإيجادها الزواج الذى يؤدى إلى بقاء النوع الإنسانى، كما شرع لحفظها القصاص والدية، وأمر بعدم تعريضها لما يهلكها. والعقل شرع لحفظه تحريم الخمر وكلِّ مُسكِر، وعاقب مَن يتناول شيئا منها؛ ليحفظ عقول الناس مِن أن يدخل عليها خلل؛ ولذلك يجب مَنْعُ تفشِّى كلّ ما يفسد العقول، والعِرض شرع لحِفظه تحريم القذف، وأوجب الحَدَّ على القاذف، وتوعد مَن يشيع الفاحشة بالعذاب الأليم فى الدنيا والآخرة. والمال شرع لإيجاده وجوب السعى والعمل، ونهى عن الكسل والتواكل، وشرع أصول المعاملات. وللمحافظة عليه حرَّم كل ما هو أكل لأموال الناس بالباطل، وشرع الاقتصاد فى استعماله، وعدم الإسراف أو التبذير، واعتبر الواقع فيهما أخًا للشياطين. ولنا على هذا الترتيب الملاحظات الآتية: أنه جعل الدين فى المقدمة، ثم النفس والعقل والعرض، وأخيرًا المال، وبعض العلماء يرتبها بطريقة أخري. وأيَّا ما كان الأمر، فلا يخفى أن هذا الترتيب فيما مضى قد أدى دوره، وهو فى الوقت الحاضر قد يحتاج الأمر ليس إلى إعادة ترتيب هذه الكليات، بحيث تتفق مع واقع الأمة مِن ناحية، وحاجة العصر من ناحية أخرى، وإنما -كذلك- إلى (توظيف) هذه الكليات فى الارتقاء بأحوال الأمة. وأعتقد أنه فى ظل تردى أوضاع الأمة، وغياب دورها فى عالم اليوم، ووضوح الفارق الحضارى بين مستوى الإنسان فى العالم الإسلامى ومستواه فى غيره، لا يسعنا إلا أن نقترح ترتيبًا آخر نجعل الأولوية فيه للنفس، ثم العقل، ثم الدين، ثم النسل، ثم المال؛ إذ إن حقوق «النفس» أو الإنسان فى بلاد المسلمين مُهدَرة إلى حد كبير؛ طبقًا لشهادة منظمات حقوق الإنسان من ناحية، وكذلك للواقع الماثل الذى لا تخطئه العين من ناحية أخري. وإنّ تقديم النفس على الدين مِمّا تشهد له أصول الشريعة، عندما أباحت للمسلم الذى يلقَى ألوانَ العذاب على يد الكفار، أن ينطق بكلمة الكفر إنقاذًا لنفسه من الهلاك، مادام قلبه مطمئنا بالإيمان، وهذا تقديم للنفس على الدين. إن هذه الكليات الخمس قد أقرتها جميع الأديان، وهذا أمر مهم يشهد باتفاق الإسلام وما سبقه من أديان فى المحافظة على الحياة، وجميعُها يقف ضدَّ كلِّ ما يجلب الفساد والفوضى لمجموع البشر، بغَضِّ النظر عن أديانهم أو أجناسهم أو لغاتهم. وهذا مظهر من مظاهر عالمية الإسلام الذى يَعتبر أن قضايا ومشكلات البشر جميعًا هى مِن صميم رسالته ومسئوليته. إن هذه الكليات ثمرة الاجتهاد فى الماضى، ولم يَعُد مناسبًا أن نتوقف عندها، رغم أهميتها؛ إذ مسَّت الحاجة إلى اجتهاد معاصر يستنبط مقاصد أخرى، تكشف عن أغراض لم تكن مطلوبة مِن قَبْلُ كما هى مطلوبة اليوم، مثل العدل والحرية.