كان من حكمة الله جل وعلا أن تكون الكعبة المشرفة قبلة للمسلمين بعد أن حازوا شرف التوجه إلي بيت المقدس ليكونوا من أهل القبلتين وليتميزوا عن المشركين قبل الهجرة, وعن اليهود بعد الهجرة إلي المدينةالمنورة, وقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يرتبط قلبه بالكعبة المشرفة, وبمكةالمكرمة حتي قال الدعاء الذي ردده عند تركه أراضيها والله إنك لأحب أرض الله إلي وإنك لأحب أرض الله إلي الله, ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت.. الدعاء. فلما كانت قبلة بيت المقدس وهو يصلي بمكة إلي الكعبة حيث كانت بين يديه كما رواه الإمام أحمد عبد ابن عباس رضي الله عنه, لذلك لم يكن صلي الله عليه وسلم يفكر في تحويلها لأنه كان يجمع بين القبلتين, فلما هاجر إلي المدينة لم يمكنه أن يجمع بينهما فصلي إلي بيت المقدس أول مقدمه للمدينة, واستدبر الكعبة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يجب أن يصرف قبلته نحو الكعبة قبلة ابراهيم عليه السلام, وكان يكثر من الدعاء والابتهال إلي الله عز وجل ويرفع يديه وطرفه إلي السماء سائلا الله ذلك. كما سأل رسول الله صلي الله عليه وسلم جبريل عليه السلام ذلك قائلا وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلي غيرها فقال جبريل: إنما أنا عبد وأنت كريم علي الله فادع ربك وسله وظل صلي الله عليه وسلم يدعو ربه حتي نزل عليه جبريل بقوله تعالي: وقد نري تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام, وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطرة, وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون البقرة/.144 يقول الإمام ابن كثير في( البداية والنهاية)(.. قال الجمهور الأعظم: إنما صرفت في النصف من شعبان علي رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة) كما ذكر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم خطب المسلمين وأعلمهم ذلك, كذلك أخرج الإمام النسائي عن أبي سعيد بن المعلي فقال إن ذلك كان وقت الظهر وأن البعض قال إن تحويلها كان بين الصلاتين. فقال مجاهد ذلك هو وغيره, يؤيد ذلك ما ذكر في الصحيحين عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن, وقد أمر أن يستقبل الكعبة, فاستقبلوها, وكانت وجوههم إلي الشام, فاستداروا إلي الكعبة, وفي صحيح مسلم عن أنس نحو ذلك. أما عن مغزي تحويل القبلة: فقد كان له مغزي وحكمة كبيرة اختبر الله تعالي فيها المسلمين والمشركين واليهود والمنافقين. فأما المسلمون فقالوا: سمعنا وأطعنا وقالوا:( آمنا به كل من عند ربنا), آل عمران/.7 وأما المشركون فقالوا: كما رجع إلي قبلتنا يوشك أن يرجع إلي ديننا, وما رجع إليها إلا أنه الحق, وأما اليهود, فقالوا: خالف قبلة الأنبياء قبله, ولو كان نبيا, لكان يصلي إلي قبلة الأنبياء. وأما المنافقون فقالوا: ما يوري محمد أين يتوجه إن كانت الأولي حقا فقد تركها, وإن كانت الثانية هي الحق, فقد كان علي باطل, وكثرت أقاويل السفهاء من الناس, وكانت كما قال تعالي( وإن كانت لكبيرة إلا علي الذين هدي الله) البقرة/.143 وبذلك أتم الله نعمته علي المسلمين, وجعل لهم شخصية دينية مستقلة عن اليهود وجعلهم متصلين بدين أبيهم ابراهيم عليه السلام وقبلته, وبذلك كان تحويل القبلة عن بيت المقدس إلي الكعبة المشرفة أساس متين في بناء أمة الإسلام حيث ساعد علي تأليف قلوب أهل مكة وسائر القبائل العربية في سائر جزيرة العرب نحو الإسلام كما كان للمسلمين ميزة أصحاب القبلتين. حيث ساد الإسلام بين ربوعها. أستاذ التاريخ الإسلامي