الأستاذ نجيب محفوظ إنسان رقيق كنسمة الصيف, وحريري في صياغة كلماته, ورسولي في سلوكه علي الورق, وسلوكه في الحياة, إنه رجل اللا عنف الذي يمسك العصا من وسطها.. ولا يسمح لنفسه بأن يجرح حمامة.. أو يدوس نملة.. أو يغامر.. أو يسافر.. أو يغادر زاويته التاريخية في حي سيدنا الحسين. هو رجل السلام والسلامة, ولا يعرف عنه, أنه تشاجر ذات يوم مع أحد.. أو تعارك مع رجل بوليس, أو وقف في وجه حاكم.. أو أمير.. أو صاحب سلطة.. إنه دائما يلبس قفازات الحرير في خطابه الاجتماعي والسياسي, ويتصرف كحكومة الظل في النظام البريطاني.. هذا الموقف السكوني الكلاسيكي في طبيعة أستاذنا الكبير هو الذي جعله ينتفض كعصفورة عندما قرأ قصيدتي الأخيرة المهرولون فهو لم يتعود خلال تاريخه الطويل, علي قراءة القصائد المجنونة التي تفرش عباءتها علي الأرض.. وتصرخ كالقطط المتوحشة في ليل الانحطاط العربي.. غير مكترثة بالفضيحة, وبما يقول الناس عن ظهورها في الشارع عارية.. أو نصف عارية.. فليعذرني عميد الرواية العربية, إذا جرحت عذريته الثقافية, وكسرت عاداته اليومية, وقلبت فنجان القهوة عن الطاولة التي يجلس عليها مع أصدقائه.. فالقصيدة ليست لها عادات يومية تحكمها.. أو نظام روتيني تخضع له. إنها امرأة عصبية وشرسة.. تقول ما تريده بأظافرها.. وأسنانها.. القصيدة ذئب متحفز ليلا ونهارا, ومواجهة بالسلاح الأبيض مع اللصوص والمرتزقة.. وقراصنة السياسة.. وتجار الهيكل..أستاذنا نجيب محفوظ قمة روائية لا يجادل فيها أحد, ولكن نظرته إلي الشعر, نظرة ساذجة, وملتبسة, وتحتاج بعض التصحيح. هذا الكلام العنيف الموجه من نزار قباني إلي نجيب محفوظ ردا علي ما كتبه نزار في قصيدته المهرولون التي ألقاها بدون مناسبة في بيروت في الثاني من أكتوبر عام.1995 كانت القصيدة شبيهة بقصيدة هوامش علي دفتر النكسة التي كتبها بعد النكسة ناقدا فيها الرئيس جمال عبد الناصر. المهرولون هي المكافئ لتلك القصيدة, غير أنها موجهة في نقدها هذه المرة إلي الرئيس السادات وعملية السلام التي حدثت قبلها بثماني عشرة سنة. بدأها نزار: سقطت آخر جدران الحياء وفرحنا.. ورقصنا.. وتباركنا بتوقيع سلام الجبناء لم يعد يرعبنا شيء ولا يخجلنا شيء فقد يبست فينا عروق الكبرياء سقطت.. للمرة الخمسين.. عذريتنا دون أن نهتز.. أو نصرخ أو يرعبنا مرأي الدماء ودخلنا في زمان الهرولة ووقفنا بالطوابير كأغنام أمام المقصلة وركضنا.. ولهثنا.. وتسابقنا لتقبيل حذاء.. القتلة عندما قرأ نجيب محفوظ تلك القصيدة علق عليها كما هي شيمته دائما بموضوعية وأدب ومعرفة, وأثني علي نزار بإعجاب: إنها قوية جدا, أشبه ب قنابل تفرقع في وجه عملية السلام, لكن, دون أن تقدم بديلا. لقد أعجبتني رغم اختلافي السياسي معها, إنني لا أنفي إعجابي بها, ومن يشارك نزار قباني موقفه, سيجد فيها تعبيرا قويا عن هذا الموقف, لكنه موقف يبدو أضعف من القصيدة بكثير, قصيدة قوية وموقف ضعيف. نعم في مثل هذه المواقف لابد أن يقدم البديل, لا يكفي أن يهاجمهم لأنهم يهرولون ويلهثون, ويقبلون حذاء القتلة, ويفرطون في كل شيء, فالأهم هو أن يقول لهم ماذا يفعلون. أعرف أن هناك من يرفضون السلام فيما لا ينادون بالحرب, ولا يقدمون خيارا ثالثا, فماذا يفعل هؤلاء المتهمون بأنهم يهرولون؟, هل يجلسون ساكنين بلا فعل, وإذا كان البديل هو الانتظار السلبي, فإن الطرف الآخر لا ينتظر أحدا, وإنما يمضي في ابتلاع الأرض. لا يوجد سلام بغير تفاوض, وما دام خيار الحرب غير وارد فلا مبرر لهذا الهجوم علي المفاوضين العرب الواقعيين والعمليين, إنهم يريدون الوصول إلي حل, ولو كان بإمكانهم الحصول علي ما هو أفضل مما أتوا به, ما كانوا قد فرطوا, إنهم يفاوضون في ظروف صعبة, وموقفهم في المفاوضات انعكاس للوضع العربي العام. نتائج المفاوضات تختلف, لكن من أين نأتي بوضع عربي أفضل الآن وليس في مصلحتنا التوقف, لأن الطرف الآخر لن ينتظر, فلسنا في مباراة للكرة حتي نحصل علي استراحة, ثم نعاود اللعب من جديد, فإذا أخذنا استراحة, سيباغتنا الطرف الآخر بتسجيل أهداف في مرمانا... قل في السادات ما شئت لكنه أخذ المبادرة واستعاد الأرض المصرية المحتلة, ورفع علم فلسطين في مواجهة إسرائيل, وقال السادات للفلسطينيين: تعالوا, لكن لم يأتوا, وكانت الشروط المطروحة عليهم آنذاك أفضل منها الآن عشر مرات, فقد قبلت إسرائيل وقتها بالحكم الذاتي إلي جانب إعادة سيناء إلي مصر. إن نزار قباني مخلص في موقفه, ولا يقول هذا الكلام تزييفا, إنه رأيه, وهو مقتنع به, وله كل الحق في ذلك, وهناك من يؤيدون هذا الرأي في كل البلاد العربية, ومن يرفضون السلام علي طول الخط حتي إذا حققنا منه مكسبا, وهذا حقهم. إنهم يسعون لحل المشكلة بقدر ما يستطيعون وفي حدود ما تسمح به ظروف الواقع, ولا جدوي من أن نشبعهم تقريعا, ونقول لهم: أضعتم الحياة.. أضعتم غرناطة وإشبيلية وأنطاكية.. وفرطتم في كل شيء. كان هذا ردا موضوعيا ووجهة نظر غير معهودة في عالمنا العربي. استطرد نزار في رده الغاضب, رافعا درجة حرارة كلامه بطريقة تصاعدية ضد ما قاله محفوظ: ففي تعليقه علي قصيدتي, خلط الروائي خلطا عجيبا بين الشعري والسياسي, بين القصيدة وبين الموقف.. فامتدح القصيدة جماليا وهجاها أيديولوجيا.. إنني لا أناقش الأستاذ نجيب محفوظ في عقيدته وقناعاته السياسية, ولكنني أقول له: إن الشعر دولة ليبرالية, لا سلطان فيها إلا للجمال, والعدالة والحرية, وليس من وظيفة للشعر سوي أن يكون شعرا.. وأن يكون صادقا مع الناس ومع نفسه.. ومع الحقيقة. هذا هو موقف الشعر مما يجري علي المسرح العربي. فإذا كان الأستاذ نجيب محفوظ يري موقفي( ضعيفا).. ويطالبني بأن أصفق لمسرحية اللا معقول التي يعرضونها علينا بقوة السلاح, وقوة الدولار, فإنني أعتذر عن هذه المهمة المستحيلة واستطرد في علو نبرة نقده متعمدا وجارحا, ومحاضرا بتعال: ربما كنت في قصيدتي حادا, وجارحا, ومتوحش الكلمات.. وربما جرحت عذرية كاتبنا الكبير وكسرت زجاج نفسه الشفافة ولكن; ماذا أفعل ؟ إذا كان قدره أن يكون من( حزب الحمائم) وقدري أن أكون من( حزب الصقور) ؟. ماذا أفعل إذا كان أستاذنا نجيب محفوظ مصنوعا من القطيفة.. وكنت مصنوعا من النار.. والبارود؟. ماذا أفعل إذا كانت الرواية عنده جلسة ثقافية هادئة في مقهي الفيشاوي.. وكانت القصيدة عندي, هجمة انتحارية علي القبح والانحطاط والظلام, والتلوث السياسي والقومي ؟. ربما كان الخطاب الروائي يختلف في طبيعته وأدواته وتقنيته عن الخطاب الشعري, فالروائي يجمع عناصر روايته, ويرتبها, ويدرس سيكولوجية أبطاله, كما يفعل الأكاديميون والباحثون الذين يشتغلون في مختبراتهم بعقل بارد, دون أن يشعروا بضغط الزمن عليهم. أما الشاعر, فهو يشتغل بمادة سريعة الانفجار, لا يمكنه أن يؤجل التعامل معها إلي فترات طويلة, وإلا انفجرت بين يديه.الشعر برق لا عمر له.. أما الرواية فورشة تفتح أبوابها لمدة24 ساعة. ولأن الشعر يتصرف بطفولة وتلقائية, لا يمكننا أن نطلب منه أن يكون حكيما, أو واعظا أو خطيبا, أو معلم مدرسة. ليس من وظيفة القصيدة أن تقترح الحلول, وتجد البدائل, وتكتب الروشتات للمرضي والمعاقين. الشعراء ليسوا جنرالات.. ولا يعطون التعليمات من غرفة العمليات, ولا يعلنون الحرب, ولا يوقفونها, ولو كان مسموحا للشعراء أن يكونوا في مركز اتخاذ القرار لما امتلأ العالم بالمجازر العرقية والعنصرية, ولما حولت قنبلة هيروشيما250 ألف ياباني في ثانية واحدة إلي شوربة بشرية تتبخر وكان رده علي ما قاله محفوظ, بأنه يتعين علي الناقد الرافض أن يقدم بعض الحلول, يقول نزار:. والذي يدعو إلي الدهشة في كلام الأستاذ نجيب محفوظ, هو مطالبتي بتقديم بديل لعملية السلام المتعثرة, كأنني السكرتير العام للأمم المتحدة, أو عضو دائم من أعضاء مجلس الأمن, أو كأنني المسئول عن صياغة النظام العالمي الجديد. إن مطالبة الشاعر بتقديم البدائل تعطيه سلطة تتجاوز سلطته البشرية وتجعله مركزا من مراكز القوي, وشريكا في اتخاذ القرار السياسي. وهذا يدخل في باب المحرمات في أنظمتنا السياسية الأوتوقراطية التي لا مكان فيها للشريك الآخر.. أو للفكر الآخر.. أو للرأي الآخر. الشاعر في بلادنا هو صفارة إنذار تنطلق في ساعات الخطر.. وتطلب من الناس أن ينزلوا إلي الملاجئ الواقية من الخوف.. والقمع.. والديكتاتورية.. الشاعر في تاريخنا هو زرقاء اليمامة التي حذرت قومها من الخطر الذي يقترب من خيامهم, وأخبرتهم بتفاصيل رؤيتها, ولكنهم لم يصدقوها. ولو أن الرئيس أنور السادات قرأ قصيدة شاعر مصر الرائي والمستكشف أمل دنقل لا تصالح لما دخلنا في ذلك النفق المظلم الذي لا نزال نتخبط فيه إلي اليوم. لقد قدم الشاعر أمل دنقل إذن للرئيس المصري نبوءته. واجتهد اجتهاده الشعري والقومي.. ولكن صوته ضاع في ضجيج محركات الطائرة الرئاسية المسافرة إلي القدس هذه المعركة لم تستمر. بالتأكيد هي طبيعة نجيب محفوظ التي وضعت نهاية لها إدراكا منه أنها جر شكل سخيف ومجرد بخار ساخن وكلام لا يستحق التعليق. تحضرني هنا مقولة الأستاذ الكبير محمود شاكر في تشخيصه الدكتور طه حسين, إبان معركتهما الأدبية الطاحنة في كتابه مع المتنبي, حيث قال: طه حسين كالجبل, لا يعمل فيه السيف, وهو يعمل في السيف نعم كان قلم نزار كالسيف في رده علي نجيبب محفوظ, وكان محفوظ كالجبل, فلم يؤثر فيه السيف بشيء. اتهم نزار نجيب محفوظ بالسذاجة في فهمه للشعر, وما هو بساذج, والكل يعرف عنه الآن أنه كان شاعرا, ربما أشعر من نزار نفسه, وحاضره في الرواية وهو إسطورتها وعميدها, واتهم الرواية بالبرود مقارنة بالشعر, وما هي كذلك. كل كلمة قالها نزار في رده لا تنطبق علي محفوظ, وهو ما يعني أنه لم يقرأ محفوظ أبدا, ولم يفهمه أبدا. عندما كتب نزار هوامش علي دفتر النكسة, كتب محفوظ مجموعته القصصية تحت المظلة في نفس الوقت. كانت تحت المظلة أكثر عنفا وغضبا وفاعلية من قصيدة نزار. كانت تشخصا لمرض العبث الذي أصاب الأمة. ورغم رمزيتها فقد كانت واضحة في مقولتها ونقدها وحلولها وكل كلمة فيها. إذا لم يك محفوظ مصنوعا من القطيفة مثلما تجرأ نزار قباني. نعرف كل يوم بأنه كان مصنوعا من الصلب المخصوص. لم ينحن أبدا أو يعتذر مثلما إعتذر نزار وانحني مثل أشجار الصفصاف, عن قوله في هوامش علي دفتر النكسة هاجيا الرئيس جمال عبد الناصر: قتلناك.. يا آخر الأنبياء قتلناك.. ليس جديدا علينا اغتيال الصحابة والأولياء فكم من رسول قتلنا.. وكم من إمام.. ذبحناه وهو يصلي صلاة العشاء فتاريخنا كله محنة وأيامنا كلها كربلاء.. نزلت علينا كتابا جميلا ولكننا لا نجيد القراءه.. وسافرت فينا لأرض البراءه ولكننا.. ما قبلنا الرحيلا.. تركناك في شمس سيناء وحدك.. تكلم ربك في الطور وحدك وتعري.. وتشقي.. وتعطش وحدك.. ونحن هنا نجلس القرفصاء نبيع الشعارات للأغبياء ونحشو الجماهير تبنا وقشا ونتركهم يعلكون الهواء وأقول: إذن سيدي نزار: من كان القطيفة, ومن كان البارود والنار, ومن كان المداهن, أنت أم نجيب محفوظ الذي ظل شامخا كالجبل حتي لاقي ربه؟ أنت أم نجيب محفوظ الذي كتب ثرثرة فوق النيل, والخوف, والكرنك وكان فيها كلها نجيب محفوظ قلب الأسد الذي لم يعرف المداهنة أو الاعتذار مثلما كنت أنت؟ نزار قباني يعاير محفوظ بأنه لم يسافر أبدا, وأنه لم يغادر زاويته في الحسين, وما هذا بعيب أو عار!! محفوظ لم يك أيضا ساداتيا أبدا. بالعكس كان مختلفا معه وكان من الموقعين علي بيان حالة اللا حرب واللا سلم قبل حرب السادس من أكتوبر مع توفيق الحكيم وآخرين مما عرضه للغضب والخطر. لم تحتدم هذه المعركة ولم تدم بفضل طبيعة محفوظ الذي يدرك دائما متي يتوقف. والذي يعرف الإساءة فيحتسبها عند الله. الجامعة البريطانية في مصر