يعيش المسلمون ذكري هجرة رسول الله صلي الله عليه وسلم من مكة إلي المدينة, وهي ذكري ينبغي علينا دوما التفكير في دروسها واستخلاص العبر منها, فالهجرة ليست مجرد سفر من أرض إلي أرض, ولكنها أمر من الله للمسلمين, فمن ضاق به الرزق في أرض أو خاف علي حياته وأمواله وأبنائه في مكان, فعليه أن يسعي في الأرض طالبا الرزق والأمن, ويختلف الأمر عن الفرار من المعركة أو الخروج من بلد يواجه حربا تهدد أرضه وشعبه. لأن الله سبحانه وتعالي أمر المسلمين بقتال من يحاول قتلهم وإخراجهم من بيوتهم أو يحارب دينهم. والهجرة أو الانتشار في الأرض ليست فقط لمصلحة المهاجر, بل هي أيضا وسيلة من وسائل إعمار الأرض ونشر دين الله فيها, فالمسلم المهاجر, إنما يهاجر بما يحمله داخله من قيم وتعاليم دينه الإسلامي ليكون سفيرا ناشرا للدعوة إلي الله بخلقه وسلوكه الإسلامي الذي يجب عليه التمسك به والتحلي بأخلاقه, ليري فيه الغرباء نموذجا للمسلم الحقيقي الصادق الأمين الذي لا يكذب ولا ينافق ولا يسرق ولا يزني ولا يشرب الخمر ولا يهدد حياة الآخرين فيسلموا من لسانه ويده. لقد هاجر رسول الله صلي الله عليه وسلم خوفا علي المسلمين- وكانوا وقتها قلة مستضعفة- من تعذيب الكفار والمشركين, وليس خوفا علي حياته لأنه يدرك في قرارة نفسه أن الله يكفيه أذي الكفار, فلم تكن الهجرة مجرد هجرة بشر بل هجرة ما يحملونه من قيم الدين الجديد لينشروه في أرض أخري يأمنون فيها علي دينهم وعلي أرواحهم وأموالهم. بما يسمح لهم بامتلاك أسباب القوة العددية والعتادية التي تمكنهم من نشر دين الله وتكوين دولة قوية قادرة علي توصيل رسالة الإسلام للعالم, فلم يبعث النبي الأمي الأمين هاديا لقومه فقط كسابقيه من الأنبياء والمرسلين عليهم جميعا صلوات الله وسلامه, ولكن هاديا للخلق أجمعين. لم تكن الهجرة مكتوبة علي المسلمين فقط, بل كانت قدرا مكتوبا علي كثير من الأنبياء, فقد هاجر موسي بقومه من مصر خوفا عليهم من اضطهاد الفرعون, وهاجرت مريم بعيسي الكليم من الشام لمصر خوفا علي حياته وهو طفل رضيع, وهاجر لوط بأهله قبل أن يحل علي قومه عذاب الله بما جنت عليهم أفعالهم, وهاجر نوح بسفينته وما عليها من مخلوقات وبشر أمنوا به وبرسالته قبل الطوفان, وهاجر إبراهيم بابنه إسماعيل وزوجته هاجر من العراق, حيث أسكنهم في واد غير ذي زرع بأرض مكة التي لم يكن يسكنها وقتها بشر ولا طير. وكانت كل هجرة إيذانا بمرحلة جديدة لنشر دين الله في أرض جديدة وإعمارها, وكان إيمان كل نبي هاجر من أرضه بالله كفيلا بأن يجعل القلوب تطمئن وتهدئ النفوس. فحين ننظر إلي هجرة سيدنا إبراهيم بزوجته المصرية وطفله الرضيع الذي عاش يدعو الله أن يرزقه به, نجد أن الإيمان في قلوبهم كان أكبر من الخوف علي الحياة, ذلك الإيمان العميق الذي دفع هاجر لتسأل النبي إبراهيم قبل أن يتركها ووليدها في الصحراء سؤالا يلخص معني الثقة بالله حين قالت أأمرك الله بهذا؟.. وحين أجابها بأنه أمر من الله, ردت عليه بيقين نادر قائلة:إذن فلن يضيعنا. وهو اليقين نفسه الذي طمأن به رسول الله صاحبه في الهجرة سيدنا أبا بكر الصديق عندما قال له لا تحزن إن الله معنا. فقبل أن تهاجروا اخلصوا النية لله فكما قال رسول الله( إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوي, فمن كانت هجرته إلي الله ورسوله فهجرته إلي الله ورسوله, ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلي ما هاجر إليه).