قادتني االمصادفة ركوب تاكسي كان قائده رجلا تجاوز الستين من عمره تبدت علي ملامحه الطيبة الأبوية منذ اللحظة الأولي لدخولي السيارة. كان الجو حارا و الشوارع مزدحمة وكنت أنظر من النافذة حتي طلب مني غلقها لتشغيل التكييف. ثم وجدته يقول بابتسامة رضا: الواحد مش عارف يصيف ولا يشتي. فأجبته بهدوء:الحمد لله علي كل شيء إحنا أحسن من غيرنا, مش مهم الحر أو البرد المهم فيه وطن طيب. سارع الرجل الي التأكيد علي حديثي قائلا: طبعا أومال ما فيش كلام. البلد دي حتفضل محروسة مش بسبب أي حد لكن ده وعد رباني. لكن يا خسارة ناس كتير مش حاسين بالنعمة دي من كتر الطغيان اللي جوانا. توقفت أمام عبارة الرجل البليغة المعني, الحصيفة العميقة في ذات الوقت والتي لخصت الكثير من معاناتنا اليومية في بلادي سواء علي مستوي المواطن الفرد أو علي مستوي المسئولين في الحكومة. نعم نعاني الطغيان الداخلي الذي أعمي البصائر قبل الأبصار. فصار كل منا عالم بكل نواحي الأمور لا يأتيه الباطل من امامه ولا من خلفه. جهبذ في الكبيرة قبل الصغيرة. عدواني النزعة لمن يخالفه الرأي وإن صح, يتحدث عن الديمقراطية ليل نهار ويرثيها وهو أول من يصفع مخالفيه بأقذع الكلمات. مردد لأي شائعة دون تحقق حتي لو أثارت لغطا وبلبلة وأضرت بسمعة ناس ووطن, متعالي علي الآخر- أيا كان الآخر- دون تفهم لوجهة نظر ودون تمعن في معان حتي من باب الفهم لكي يتمكن من الرد الصحيح, مستعد بأوصاف الوطنية والشجاعة لمن يؤيده الرأي حتي ولو لم يكن, وبأوصاف التخوين و الابتذال لمن يخالفه الرؤية. نعم يا سادة بتنا نمارس الطغيان علي بعضنا البعض دون مراعاة لحرمة السيرة, أو منطق الطرح, أو أخلاق التراحم. نمارسه باقتدار في الشارع و الإعلام و المؤسسات دون إدراك أن ما نفعله يزيد من عزلتنا عن بعضنا البعض ويوجد منا جزرا متباعدة رغم ادعاء كل منا أن الهدف مما نقوم به هو تحقيق المصلحة العامة. بينما نتجاوز كل يوم حدود المنطق و الرحمة و الأخلاق و المواطنة والمسئولية, فنمارس الطغيان جمعااااء! يعرف القرطبي الطغيان بأنه تجاوز الحد في الظلم والغلو فيه-صغيره وكبيره-, بينما نحن بقدرة قادر حصرنا الطغيان في المفهوم السياسي للكلمة فقط. فأصبح معناها مقترنا بالحاكم المستبد الظالم لعباد الله ممن يحكمهم. وهو دليل آخر وبشكل ساخر علي طغياننا أيضا. لأننا لا نري أننا ظالمون ولا نري ممارستنا للظلم صغيره وكبيره- نوصف حال الحاكم فقط إذا ما استبد و ظلم. ولكن لا نري في تجاوز اللفظ عند النقد وتسويد الحياة باللون الهباب في وجه العباد ظلما! ولا نري تقاعسنا عن أداء مهامنا بكفاءة واجادة ظلما؟ ولا نري في فسادنا اليومي حينما نعطل مصالح العباد أو نرتشي لأدائها ظلما؟ ولا نري أن اختيار غير الأكفاء لتنفيذ رؤية الدولة والنهوض بها من عثرتها ظلما؟ ولا نستشعر في أدائنا الاعلاني- الموصوف خطأ بالإعلامي- ظلما؟ وحديثي عن نحن هنا لا يقتصر علينا كمواطنين فرادي في المجتمع, ولكن يمتد لنا كعاملين في الدولة علي كل المستويات من أصغر عامل إلي أكبر مسئول لأننا تناسينا وببساطة حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الجامع المانع كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. فجميعنا مسئول يا سادة وجميعنا سيحاسب عما فعل ومارس من طغيان مهما قل أو كبر شأنه. لقد أجدنا توجيه الاتهام للمجتمع دون إدراك أننا جزء من المجتمع الذي نتحدث عنه. وتناسينا أن التغيير الحقيقي يبدأ من اصغر جزيء في النواة وينتقل بعدها عدوي تغييره لبقية الجزيئات. ولذا فحديثي لنفسي قبلكم, ألم يحن الوقت لمكافحة طغياننا الداخلي قبل أن يغمر ما تبقي فينا من إنسانية؟ وللحديث بقية.