يؤرقنا موضوع التعصب اليوم، كما أرق آخرين من قبلنا، منهم ابن منظور فى لسان العرب (المعجم القديم) الذى يشرح التعصب فيقول: وتعصب الرجل أى دعا قومه إلى نصرته والتآلب معه على من يناوئه سواء كان ظالما أو مظلوما، والناقة العصوب هى التى لاتدر لبنا، والعصوب هو الجائع الذى كادت امعاؤه أن تتيبس من شدة الجوع، وجاء فى الحديث أن العصيب هو من يعين قومه على الظلم، ولاتنتهى معانى هذه الكلمة ومشتقاتها فى صفحات هذا المعجم القديم، كأن هذه الكلمة كانت تؤرقه قديما بنفس القدر الذى تؤرقنا الآن، وكأنها كانت تضرب فى جذور عالمه المستقر كما نفعل فى عالمنا المعاصر الذى لايكف عن التحولات ونحن فى بداية القرن الحادى والعشرين. لقد عادت الكثير من الأمراض الوبائية، تحوصلت الجراثيم وغيرت من صفاتها، وبذلك استطاعت أن تقاوم موجات المضادات الحيوية وأن تعود لفرض سطوتها من جديد.. فهل اكتسبت جرثومة التعصب نفس هذه الخصائص؟ يبدو أن ذلك قد حدث بالفعل.. وإلا ماتفسير تلك الموجات المنتشرة من حركات التعصب والتطرف والإبادة التى تغمر كل مكان فى العالم الآن بدءا من الحركات المتطرفة فى العديد من أقطارنا العربية إلى صراعات التمييز العرقى فى الهند وكشمير.. إلى عمليات الإبادة الجماعية فى بورندى ورواندا.. وسياسات الاقتلاع فى فلسطينالمحتلة وحرب الإبادة الدينية والعرقية التى دارت فى البوسنة والهرسك.. صراعات دامية لاتهدأ ولاتريد أن تهدأ إلا بعد أن ترى الآخر مقتولا أو مسحوقا أو مبددا، إن موجة التعصب التى تلطمنا الآن تأتى بعد أن فقدت روحها الايجابية حين كانت دفاعا عن النفس وتجمعنا لامفر منه للذوات البشرية الضعيفة فى مواجهة طبيعية قاسية أو تسلط طاغ فى محاولة للبقاء والوجود، وهو التعصب الايجابى الذى أنبت العديد من القوميات وحافظ على ثقافتها من الضياع، وتحول إلى تعصب سلبى يهدف إلى تحقير الآخرين وسلبهم حقهم فى العقيدة التى يؤمنون بها والأرض التى يعيشون عليها، هذه السلبية انبعث معها العديد من صيحات القومية الانفعالية التى تمثل خطرا داهما على بقاء الجنس البشرى مثلها تلوث البيئة والانفجار النووي. فالحزازات العرقية التى نشهدها الآن هى تعبير عن عواطف الكراهية العميقة التى كان يكنها كل عرق فى مواجهة الآخر والتى فشلت محاولات بناء الدولة المعاصرة فى دفنها أو محوها. التعصب إذن هو حركة رجعية متخلفة عن عقلانية القرن التاسع عشر وهو فى حركته العشوائية المدمرة يمكن أن يضرب خلاصة القوانين والاعراف والقيم التى يقوم عليها تماسك أى مجتمع من المجتمعات ويصيبه بالشروخ العميقة.. وما الأفكار المتعصبة التى نسمعها إلا مجرد ضبابية لتبرير عدم العقلانية والجهل والخوف من مواجهة الآخر وعدم تقبله وكأن تاريخ التعصب هو تاريخ من كان يصر دائما على احتكار الحقيقة واحتكار الحق الأوحد فى الحياة والبقاء وربما كان ما مر فى التاريخ البشرى من آثار هذه الأزمنة هو بمثابة الارهاصات للمجازر التى يشهدها عالمنا المعاصر، فقد اثبتت الاختلافات الدينية والعرقية أن للثأر ذاكرة عنيدة لايمحوها مرور الوقت ولاتبديل الدول ولا تراكم القوانين، كان دائما هناك احتكار للحقيقة فى وقت التحولات الدينية الكبير، وكان هناك احتكار للبقاء فى وقت الأزمات الاقتصادية والمجاعات، وخلال هذه التحولات القسرية ارتدى التعصب مختلف الأقنعة وزين نفسه بمختلف الشعارات كى يبرز الطغيان الذى تقوم به جماعة ضد أخري. منذ ذلك الوقت تشكلت ملامح التعصب الدينى بين الذين يحافظون على سطوتهم ومكتسباتهم ويأخذون من الدين ستارا للسلطة، وبين الثائرين الذين يطمحون إلى التغيير والتجديد، حدث هذا أيضا عندما ألقى أباطرة الرومان بالمسيحيين الأوائل للأسود الجائعة، ومارس المسيحيون الأوروبيون بعد ذلك ضد من خالفهم فى العقيدة وأبادوا الهنود الحمر فى العالم الجديد بحجة إدخالهم فى الكاثولوكية، ونهضت محاكم التفتيش وسط ظلمات العصور الوسطى على أثر سقوط الأندلس لحرق الهراطقة وإرغام بقايا المسلمين فى اسبانيا على التنصر، وشهد التاريخ الاسلامى فى فتنته الكبرى أقصى أنواع الصراع المتعصب حيث رفعت كل فئة القرآن الكريم على أسنة السيوف وهى تزعم أنها وحدها صاحبة الحق المطلق ومازالت هذه السيوط بشكل أو بآخر مشروعة حتى اليوم.. ولم تهدأ أيضا الصراعات التى آثارها التعصب العرقى، بل لعلها كانت أشد عنفا حين اتخذت من الإبادة وسيلة أساسية لتدمير الآخر دون أى فرصة للتقارب بين الأعراق المتناحرة.