لم تثر جماعة أو حركة أو حزب في مصر, والعالم العربي عموما, جدلا مثل ذلك الذي أثارته جماعة الإخوان علي مدي أكثر من80 عاما, ومازالت تثيره ولم تدخل جماعة أو حركة أو حزب في صراع ضد عشرات الحكومات المتوالية إلا جماعة الإخوان التي كان الصدام هو القاعدة والتعاون استثناء في علاقاتها مع الحكومات التي تولت الحكم في مصر, وخصوصا منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي وحتي الآن. ولم تحظ حركة أو جماعة أو حزب بمثل مالقيته جماعة الإخوان من اهتمام أكاديمي وبحثي, ومع ذلك فقليلة هي الكتابات التي تجمع المعرفة الصحيحة بها والنظرة الموضوعية إليها وسط فيض لاينتهي من الكتب والأبحاث والدراسات, فمنذ سبعينيات القرن الماضي, كثر المهتمون بظاهرة الإسلام السياسي كتابة وبحثا, وتنوعت دوافعهم, وتباينت مقاصدهم, بينما قل المعنيون حقا منهم بفهم هذه الظاهرة وتحليلها ووضعها في سياقها التاريخي والموضوعي. هذا التحليل الموضوعي الذي يضع الظاهرة في سياقها التاريخي يسعي الي استشراف مستقبلها القريب, هو مايهدف اليه كتاب الإخوان بين التاريخ والمستقبل. ليس غريبا أن أول مشروع طرحه' الإخوان المسلمون' عام2007 لبرنامج حزبهم, الذي لم يقرروا تأسيسه بعد, أثار جدلا واسعا. كان هذا هو أول برنامج يقدمه' الإخوان' منذ العام1953, عندما بدأوا في إعداد برنامج مقتضب لم يسعفهم الوقت ولا أتاحت الظروف فرصة استكماله بسبب التدهور السريع الذي حدث في علاقاتهم مع ثورة1952 وصولا إلي اتهامهم بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر وشن حملة أمنية واسعة ضدهم. ولذلك كان هناك شوق عارم إلي معرفة رؤية' الإخوان' للحاضر والمستقبل في صورة متكاملة وليس عبر الشذرات التي كانت تتناثر هنا وهناك, وفي وثيقة واحدة وليس في تصريحات وبيانات لم تخل من تعارض بينها في بعض الأحيان, وبشكل واضح بمنأي من الغموض الذي ظل يكتنف توجهاتهم تجاه بعض القضايا لفترة طويلة. وفضلا عن الاهتمام الواسع بالمشروع, شهد الجدل الذي أثار انتقادات حادة لبعض ما جاء فيه, وهجوما شديدا تجاوزه إلي الطعن في أهداف الجماعة ونواياها. ولكن بالرغم من أن بعض ما ورد في مشروع البرنامج بدا صادما بالفعل حتي بالنسبة إلي بعض من حاولوا علي مدي سنوات طويلة فهم منهج جماعة' الإخوان' وتفهمه, وكذلك بالنسبة لمن حرصوا علي التواصل معها وشاركوا بعض قادتها وكوادرها في نشاطات مشتركة. تقتضي الموضوعية تسجيل ملاحظتين أوليتين قبل مناقشة المشروع وتحليل الخطاب الذي ينطوي عليه وتحديد أوجه القصور الأساسية فيه. الملاحظة الأولي أن ما طرحه' الإخوان' كان مشروعا مقترحا لبرنامج كما اسماه المرشد العام في ذلك الوقت السيد محمد مهدي عاكف في الخطاب الذي أرسله إلي من رأي فائدة في الرأي والمشورة معهم طالبا آراءهم ومقترحاتهم قائلا( إننا نطرح عليكم هذا المشروع المقترح لبرنامج للإصلاح آملين في أن ينال بعض عنايتكم وأن تصلنا آراؤكم ومقترحاتكم حوله في أقرب وقت ممكن), انطلاقا مما قاله إنه حرص من جانبه علي( تعاون أهل الرأي والفكر من أبناء الأمة لتحقيق النهضة الشاملة). وهذا توجه إيجابي ينطوي علي انفتاح تجاه الآخر, خصوصا إذا عرفنا أن معظم من طلب منهم الرأي والمشورة إنما يصدرون عن موقف فكري وسياسي يختلف مع منهج' الإخوان' وتوجهاتهم. فالمطروح, إذن, لم يكن برنامجا نهائيا, بل مشروع برنامج وفق ما أسماه المرشد العام, وقراءة أولي لهذا البرنامج حسب ما وضع علي غلافه كالتالي:( برنامج الحزب: القراءة الأولي). أما الملاحظة الثانية فهي أن إقدام' الإخوان' علي إعلان برنامجهم كان خطوة إيجابية, بغض النظر عن أي اختلاف أو اتفاق, وبمنأي عما يمثله من تقدم أو تراجع مقارنة ببعض المواقف التي تبنوها أو عبروا عنها في السنوات الماضية. فأن تكون أفكار' الإخوان' علي المائدة لهو أفضل من أن تخفي تحتها أو بعيدا عنها. وأن تكون هذه الأفكار مطروحة بشكل واضح لهو خير من أن يحجبها الضباب. والآن, وفي ضوء ذلك, يمكن مناقشة القضيتين الأكثر إثارة للجدل وللغضب أيضا في معظم ردود الفعل علي مشروع برنامج' الإخوان' لعام2007, وهما طبيعة الدولة وعلاقتها بالدين, وموقع الأقباط والنساء فيها. وهما بالفعل قضيتان حاكمتان يتوقف عليهما مدي استعداد' الإخوان' للاندماج في نظام سياسي ديمقراطي يتطلع إليه الكثير من النخب السياسية والثقافية والإعلامية في مصر, والتوافق مع الأحزاب والقوي الأخري علي مقومات أساسية لهذا النظام الذي يعتبرونه هم هدفا أساسيا, بل وضعوه في صدارة الفصل الثاني من الباب الأول في مشروع البرنامج وهو' الأهداف', وبصيغة يمكن أن تمثل قاسما مشتركا بين مختلف دعاة التحول الديمقراطي وهي:( تحقيق الإصلاح السياسي والدستوري وإطلاق الحريات العامة وإقرار مبدأ تداول السلطة طبقا للدستور الذي يقره الشعب بحرية وشفافية واعتبار الأمة مصدر السلطات.. الخ.(1) أولا: طبيعة الدولة وقضية المرجعية الدينية: استأثرت هذه القضية بمقدار كبير من ردود الفعل الغاضبة علي مشروع برنامج' الإخوان', وانصب الغضب علي ما اعتبره الغاضبون دولة دينية يسعي إليها' الإخوان' فعليا من خلال المرجعية الدينية التي تحدث عنها بعض قادتهم من قبل ولكنها لم تتبلور إلا في هذا المشروع في صورة هيئة من كبار علماء الدين في الأمة. وذهب بعض الناقدين إلي أن المرجعية الدينية, التي حددها مشروع البرنامج في هيئة من كبار علماء الدين, لا تختلف في جوهرها عما هو معمول به في إيران في ظل مرجعية' ولاية الفقيه' التي تجسدها هيئتان من كبار العلماء أيضا هما( مجلس تشخيص مصلحة النظام) و(مجلس الخبراء). ويحسن أن نقرأ النص الوارد في المشروع كما هو أولا, لأن معظم الانتقادات التي اعتبرته بمثابة تأسيس لدولة دينية اعتبرها بعض' الإخوان' وأنصارهم غير دقيقة أو تنطوي علي مبالغة, بينما ذهب بعض آخر منهم إلي وجود التباس في الصياغة أدي إلي نوع من سوء الفهم. وقد جاء النص كالتالي:' تطبق مرجعية الشريعة الإسلامية بالطريقة التي تتوافق عليها الأمة من خلال الأغلبية البرلمانية في السلطة التشريعية المنتخبة انتخابا حرا بنزاهة وشفافية حقيقية دون تدليس ولا تزوير ولا إكراه بالتدخل الأمني المباشر أو المستتر, والتي تتم تحت رقابة المؤسسات الدينية داخلية وخارجية وبعيدا عن هيمنة السلطة التنفيذية. ويجب علي السلطة التشريعية أن تطلب رأي هيئة من كبار علماء الدين في الأمة علي أن تكون منتخبة أيضا انتخابا حرا ومباشرا من علماء الدين ومستقلة استقلالا تاما وحقيقيا عن السلطة التنفيذية في كل شئونها الفنية والمالية والإدارية, ويعاونها لجان ومستشارون من ذوي الخبرة وأهل العلم الأكفاء في سائر التخصصات العلمية الدنيوية الموثوق في جديتهم وأمانتهم. ويسري ذلك علي رئيس الجمهورية عند إصداره قرارات بقوة القانون في غيبة السلطة التشريعية. ورأي هذه الهيئة يمثل الرأي الراجح المتفق مع المصلحة العامة في الظروف المحيطة بالموضوع. ويكون للسلطة التشريعية في غير الأحكام الشرعية القطعية المستندة إلي نصوص قطعية الثبوت والدلالة القرار النهائي بالتصويت بالأغلبية المطلقة علي رأي الهيئة, ولها أن تراجع الهيئة الدينية بإبداء وجهة نظرها فيما تراه أقرب إلي تحقيق المصلحة العامة قبل قرارها النهائي. ويتم, بقانون تحديد مواصفات علماء الدين الذين يحق لهم انتخاب هيئة كبار العلماء والشروط التي ينبغي أن تتوافر في أعضاء الهيئة. وقد تعرض هذا الجزء في مشروع البرنامج, الذي ورد في الفصل الثالث الخاص بالسياسات والاستراتيجيات ضمن الباب الأول المخصص لعرض مبادئ وتوجهات الحزب, لأكبر مقدار من الانتقادات التي انضم إليها الكتاب الإسلاميون القريبون من' الإخوان', مثل فهمي هويدي الذي رأي أن هذا الجزء وراءه فكرة ساذجة حجبت نقاطا إيجابية في المشروع. أما سذاجة فكرة إيجاد هيئة لكبار العلماء فتعود في رأيه, إلي أنها لا لزوم لها في الدولة الإسلامية المفترضة, لأن عملية إعداد القوانين في أي دولة ديمقراطية تمر بقنوات ولجان تتحقق من صوابها من جوانب عدة, داخل البرلمان أو مجلس الدولة( يقصد القضاء الإداري في مصر), ولا حاجة لتأسيس كيان جديد من خارج تلك المؤسسات للقيام بمهمة عدم تعارض القوانين مع الشريعة. ولكنه مع ذلك اختلف مع من ركزوا هجومهم علي هذا الجزء من البرنامج علي أساس أن قرار هيئة كبار علماء الدين ملزم, أو أنها مرجعية عليا, ودفع بأن المشروع واضح في أن رأي الهيئة استشاري(3). وقد دفع بذلك أيضا, ولكن دون أي نقد لمشروع البرنامج, د. رفيق حبيب المسيحي الإنجيلي الذي كان قد شارك في تأسيس حزب الوسط الإسلامي, ثم تركه وأصبح قريبا من جماعة' الإخوان' وبات يقوم بدور في محاولة سد الفراغ التنظيري الذي تعاني منه. فقد رد حبيب علي الانتقادات الموجهة ضد دور هيئة كبار علماء الدين بأن هذه الفقرة في المشروع( ترتبط بتحديد دور كل طرف في عملية التشريع, وفي عملية تطبيق الشريعة الإسلامية, بأن جعلت للعلماء الرأي الاستشاري وجعلت للمجلس النيابي السلطة الوحيدة المطلقة في التشريع, وأعطت المحكمة الدستورية العليا سلطة الحكم بمدي مطابقة القوانين للدستور بما فيها المادة الثانية الخاصة بمبادئ الشريعة الإسلامية). وفسر حبيب( المعني الذي وصل إلي المحلل والمراقب( علي حد تعبيره, وهو اعتبار هذه الهيئة سلطة دينية عليا, بأنه نتيجة( عدم دقة في الصياغة فضلا عن الخطاب السياسي الملتبس لجماعة الإخوان أي الخطابات والحوارات التي لم يجد المستقبل لها رابطا واحدا يجمعها مما جعل المحلل يري أن هناك خطابا ما وراء الكلمات المعلنة(4). غير أن هذا الدفع لا يبدو دقيقا لأن النص, الذي أوردناه حرفيا, يقطع بأن رأي هيئة كبار علماء الدين ملزم في القضايا التي توجد بشأنها أحكام شرعية قطعية. ويعرف كل من يتابع أدبيات الإسلام السياسي أنها تنطوي علي اختلاف في توسيع أو تضييق نطاق هذا النوع من القضايا, وفي كيفية تنزيل الأحكام الشرعية القطعية علي هذه القضايا, وأن هذا الاختلاف قائم حتي في داخل جماعة' الإخوان المسلمين' نفسها. ولذلك, فالمشكلة هنا هي أن مدي دور الهيئة الدينية يتوقف علي التيار الذي يمتلك النفوذ الأكبر في هذه الجماعة حال وصولها إلي السلطة. وإذا كان لنا أن نحتكم إلي التجارب السابقة, نجد أن الغلبة تكون دائما للأجنحة والمجموعات الأكثر تشددا. وقد حدث ذلك بين آيات الله في إيران الشيعية, وفي حركتي' طالبان' و'حماس' في أفغانستان وفلسطين السنيتين. ولذلك, فالطريقة التي صيغ بها دور الهيئة الدينية في الدولة والنظام السياسي لابد أن تثير مخاوف كل من يتطلع إلي مستقبل تستعيد فيه الشعوب في بلادنا الإسلامية حقها في أن تكون هي وليس حفنة من علماء الدين مصدر السلطة. ولا يفيد كثيرا في تبديد هذه المخاوف المنهج الذي لجأ إليه بعض أنصار' الإخوان' لتفسير دور هيئة كبار علماء الدين بطريقة تقلل دورها وتجعله استشاريا وتعيد التذكير بأن مفهوم السلطة الدينية لا وجود له لدي أهل السنة والجماعة, ولا داخل هياكل جماعة' الإخوان المسلمين' نفسها والتي لا تعطي للفقهاء في داخلها أي سلطة علي قرارها. كما أن الدفع بأن المحكمة الدستورية العليا تظل هي الحكم النهائي لا أساس له في مشروع البرنامج. فقد أشار المشروع إلي هذه المحكمة في فقرة أخري غير تلك التي جعلت الهيئة الدينية هي الحكم النهائي في القضايا التي توجد بشأنها أحكام شرعية قطعية. ولا توجد علاقة مباشرة بين الفقرتين علي نحو يجيز مد ولاية المحكمة الدستورية علي قرارات الهيئة الدينية التي تمتلك حقا واضحا في إلغاء أي تشريع يريد المجلس النيابي إصداره إذا رأت أنه يتعارض مع ما تعتبره هي أحكاما قطعية. ففي هذه الحالة لا مجال للحديث عن محكمة دستورية أو غيرها, لأن الهيئة الدينية تعتبر المرجعية الأعلي, وبالتالي السلطة النهائية, في القضايا التي تري هي وليس غيرها أنها ترتبط بأحكام قطعية. فالطعن أمام المحكمة الدستورية العليا, وفقا للمشروع يكون علي قوانين وقرارات صدرت, في حين أن دور الهيئة الدينية يشمل منع إصدار قوانين وقرارات يريدها ممثلو الشعب أو الرئيس المنتخب من هذا الشعب, وليس من بضع عشرات من علماء الدين. ثم كيف يمكن تصور أن تتصدي المحكمة الدستورية العليا, فعليا, لقانون أصرت الهيئة الدينية علي إصداره بعد أن عدلت مشروعه الوارد إليها من المجلس النيابي, وأن تصدر حكما يقول إن هذا القانون مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية, في حين أن هيئة كبار علماء الدين هي التي أصدرته من الناحية الفعلية(5). ومع ذلك, ينبغي التنبيه إلي أن بعض السياسات العامة المتبعة تساعد علي استسهال وضع سلطة دينية فوق مؤسسات الدولة الدستورية. فقد حدث توسع في استخدام الدين في دعم بعض السياسات, وفي اللجوء إلي المؤسسة الدينية الرسمية( الأزهر الشريف) مما أدي إلي توسيع دورها وتدخلها في كل شأن, وازدياد الميل إلي طلب رأيها فيما يصح ولا يصح أن تستشار فيه. ولذلك لجأ بعض المدافعين عن مشروع برنامج' الإخوان' إلي تذكير من انتقدوا إضفاء طبيعة دينية علي الدولة بأن ما جاء في هذا المشروع هو امتداد محسن لما يحدث بالفعل, علي أساس أن الهيئة الدينية المشار إليها ستكون من علماء الأزهر( بالرغم من أن المشروع لم ينص علي ذلك صراحة وأنها ستكون منتخبة ومستقلة. وبذلك يكون المشروع, وفقا لهذا التفسير, قد حقق إنجازا هو( استقلال الأزهر مما يؤدي إلي استقلال الرأي الديني عن رغبات السلطة التنفيذية(6). وينطلق هذا التفسير من أن مشروع البرنامج تبني الآلية الموجودة الآن بالفعل. ففي الواقع الراهن, يقوم مجلس الشعب بعرض القانون قبل إقراره علي مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر لأخذ الرأي وأحيانا تقوم الحكومة بعرض القانون الذي تقترحه علي مجمع البحوث الإسلامية. وفي الواقع الحالي يكون القانون المقترح من جانب الحكومة غالبا هو ما يوافق عليه مجمع البحوث الإسلامية, وهو ما يوافق عليه مجلس الشعب في نهاية الأمر, وذلك بسبب أن مؤسسة الأزهر نفسها جزء من السلطة التنفيذية, كما أن هذه السلطة تهيمن علي مجلس الشعب من خلال الأغلبية(7). وتهدف هذه المرافعة عن مشروع برنامج' الإخوان' إلي إثبات أنه لا يأتي بجديد نوعيا عما يحدث الآن, بعد أن يبالغ في رسم العلاقة بين الحكومة والبرلمان من ناحية والأزهر من ناحية أخري. وتكمن المبالغة في أن بعض مشروعات القوانين فقط وليست كلها, هي التي يؤخذ رأي الأزهر من خلال مجمع البحوث الإسلامية فيها. ومع ذلك فالتوسع الكمي, الذي حدث في لجوء الحكومة إلي الدين واستخدامه لتبرير أو تنظيم بعض سياساتها, أصبح منطلقا لتوسيع آخر نوعي هذه المرة علي نحو يمكن أن يجعل الدولة دينية في المحصلة الأخيرة.