"رفاق الحياة .. يجمعهم الموت" حكمة قديمة تجدد نفسها دائماً ، حين يغيب عن دنيانا أعلام ربطتهم الصداقة وأظلتهم المحبة ، فأرخت لهم العنان لخلق إبداعات أثرت حياتنا الثقافية والفنية والشعورية ..رحلوا معاً مثلما أمضوا حياتهم، ولكن تبقى صورهم تداعب وتر الوجدان مهما طال الزمن ، ليبقوا أبد الدهر " نجومًا لا تغيب " . رحل اليوم عن دنيانا الكاتب الساخر الكبير أحمد رجب بعد مسيرة طويلة أمضاها فى بلاط صاحبة الجلالة ، ويعد رجب واحداً من أبرز رواد الصحافة الساخرة التى أرسى قواعدها فى مصر عدد من الأعلام كإبراهيم عبد القادر المازنى صاحب "حصاد الهشيم " والشيخ عبد العزيز البشرى . تجلت عبقرية رجب فى مقاله الشهير"نصف كلمة " بجريدة أخبار اليوم ، حيث استطاع أن يلخص هموم ومشاكل المجتمع المصرى بأقل العبارات ، وكأنها مقالة كاملة . وتأتى وفاة رجب بعد أقل من شهر على وفاة رفيق دربه رسام الكاريكتير المبدع مصطفى حسين الذى رحل عن دنيانا فى 16 أغسطس من العام الجارى، استطاع رجب وحسين تكوين أشهر ثنائي صحفي فى مصر ، فرسما معاً بالريشة والكلمة شخصيات شهيرة ارتبط بها الشعب المصرى ، مثل :"الكحيت" و"قاسم السماوى" و"كمبورة" و"عبده مشتاق" و"فلاح كفر الهنادوة" . وبوفاة مصطفى حسين وأحمد رجب تطوى الصحافة المصرية صفحة من أزهى صفحاتها الخالدة ، ولكن أعمالهما ستظل ماثلة فى وجدان الجميع . حافظ وشوقى جددا الشعر العربى معًا .. وأبيا إلا أن يرحلا معا فى عام واحد ، إنهما أمير الشعراء أحمد شوقى وشاعر النيل حافظ ابراهيم ، جاءا إلى عالم الشعر وقد تحول إلى أطلال ومعالم ضائعة اللهم إلا من بعض المحاولات التى قام بها شاعر السيف والقلم محمود سامى البارودى الذى يلقبه نقاد الأدب برائد مدرسة "الإحياء والبعث فى الشعر العربى " . أمير الشعراء كان يقوم بمحاولات مستميتة ليعود بالشعر إلى سابق عصره الذهبى ، مستحضراً أرواح كبار الشعراء كإمرئ القيس والمتنبى وأبو تمام ، وكذلك كان حافظ الذى تربى فى كنف البارودى وتأثر بأسلوبه ..وهنا التقى الشاعران ليعيدا للشعر مجده بعد هوان ، وبالرغم من محاولات عودة القديم إلا أنهما واكبا ظروف عصرهما حساً ومضمونا ، كتبا فى الغزل والفخر وحب الوطن والمدح وغيرها من فنون الشعر . هذا التشابه جعل شوقى وحافظ يدافعان من خندق واحد للانتقادات التى وجهها إليهما جيل آخر كعباس العقاد وإبراهيم عبد القادر المازنى ، واللذين أسسا مدرسة جديدة فى الشعر هى مدرسة "الديوان فى الأدب والنقد" . هكذا التقى الضدان حافظ وشوقي على حبّ الشعر، واعترف كل منهما لصاحبه بمكانته، واستطاعا في مصر زمن التسامح أن يحافظا على مودة حميمة ربطتهما، وحولا التنافس بينهما إلى مبارزات شعرية هجائية، ظنها الكثيرون صراعاً، ولم تكن سوى مداعبات متعارف عليها فيما بينهما!... ونجحا حتى في التغلب على خلافهما السياسي باتساع أفق ملحوظ، فشوقي كان مؤيداً ل"القصر" دائماً، وكان أشد من هجوا أحمد عرابي وثورته، وكان حافظ مؤيداً للتمرد على القصر، بل كان تلميذاً للثائر العرابى الكبير محمود سامي البارودي. توفى حافظ أولاً فى 21 يونيه عام 1932 ، وحين سمع شوقى هذا الخبر تأثر أيما تأثير ، وقال مرثيته الشهيرة فى حافظ التى بدأها بقوله : قد كنت أوثر أن تقول رثائي.. يا منصف الموتى من الأحياء وفى الثالث والعشرين من أكتوبر فى نفس العام توفى أمير الشعراء أحمد شوقى ليلحق بصديقه شاعر النيل . المربع الكلثومى شكلت أم كلثوم ظاهرة فنية على ساحة الغناء العربى ، قلما يجود بها الزمان ، وأصبحت مثار الوجدان العربى لعقود وعقود ، تسابق كبار الشعراء والملحنين لتتغنى بإبداعاتهم ، غير أن القدر سخر لسيدة الغناء العربى مربعاً ذهبياً ساهم فى تقديم صوتها الفريد فى أبهى صورة ، ومثل أضلاع هذا المربع عصراً ذهبياً للتأليف والإبداع الموسيقى ، الضلع الأول والثانى يمثله شاعرالعامية بيرم التونسى وشيخ الملحنين زكريا أحمد ، فيما مثل الضلعين الثالث والرابع شاعر الشباب أحمد رامى وإمبراطور القصائدرياض السنباطى . "الاستقرار" كلمة السر وراء تكوين الضلعين الأولين للمربع الكلثومى ، فالتونسى شاعر أرسى قواعد جديدة للقصيدة العامية وجعل لها قالباً مميزاً يختلف تماماً عما كانت عليه ، وقادته تلك القصائد إلى المطاردة والنفى فترة طويلة ، قبل أن يعود إلى القاهرة فى أواخر الثلاثينيات ، أما الشيخ زكريا أحمد فكان يبحث عن استقرار من نوع آخر ،وخاصة بعد أن أمضى فترة طويلة مشتتاً بين احتراف التلحين أو البقاء فى سلك التواشيح و الإنشاد الدينى ، قبل أن يجد ضالته فى قصائد بيرم وصوت أم كلثوم التى كانت بدورها تسعى لتجديد ابداعها الموسيقى بعد أن اعتمدت فترة على ألحان الشيخ أبو العلا محمد ومحمد القصبجى . وحين توفر الاستقرار قدم الثنائى لأم كلثوم إبداعات جديدة مع المحافظة على الأسلوب التطريبى الذى ميز المدارس القديمة فى الغناء ، والذى لم يستطع الشيخ زكريا أحمد أن يخرج منه ، وهنا كانت أم كلثوم تستعد لخوض تجاربها الأولى مع السينما الغنائية فاستعانت ببيرم وزكريا ، وقدما لها الأغانى القصيرة التى لا زلنا نستمع إليها حتى الآن مثل الورد جميل، غني لى شوي شوي، جمال الدنيا ، ساجعات الطيور، قولى لطيفك ، وكانت فترة الأربعينيات شاهدة على الأغانى الكلاسيكية الطويلة التى ابدعها الثنائى فصارت علامات فارقة في تاريخها مثل الأهات، أنا في انتظارك، الأمل، حبييى يسعد أوقاته، أهل الهوى، حلم ، الأولة فى الغرام . دب الخلاف بين أم كلثوم وزكريا أحمد لأسباب مالية فدامت القطيعة منذ عام 1947 وحتى عام 1960 حين تم الصلح بينهما ، ولحن الشيخ زكريا آخر ألحانه لأم كلثوم " هو صحيح الهوى غلاب " ، وخلال هذه الفترة تقلصت ابداعات بيرم لأم كلثوم بسبب هذا الخلاف الذى دب بين "الشيخ" و"سيدة الغناء العربى " إلا من بعض الإبداعات التى لحنها رياض السنباطى كشمس الأصيل والحب كدة ، وبعد هذا الصلح كان الوقت قد أزف لسقوط الضلعين الأولين للمربع الكلثومى ، فقد رحل بيرم التونسى فى 5 يناير 1961 ، فلم يستطع صاحب ألحانه تحمل هذا الخبر فى ظل معاناة مع المرض فتوفى بعد أقل من شهر من وفاة التونسى فى 14 فبراير من نفس العام . أما الضلعان الآخران فقد شكلها فارسان ظلا يقدمان إبداعات كلثومية استغرقتهما معاً ،وفرضت على جموع محبى فن أم كلثوم حالة وجدانية طيلة نصف قرن وسيظل أثرها إلى أن يشاء الله ، فشاعر الشباب أحمد رامى لا يخرج عن حالته الشعرية التى استغرقت كل جوارحه ، أما السنباطى فقد نذر عوده "الذى ينام ويصحو عليه " لصوت أم كلثوم ، حتى قال عن النقاد "إذا أردتم أن تكلثموا فسنبطوا " ، كان رامى يرقب عن كثب التعاون الفنى بين "ثوما" و"رياض" فى القصائد الدينية والوطنية لشوقى وحافظ إبراهيم ، وهنا جاء الدور ليقدم خالدته "رباعيات الخيام " للشاعر الفارسى عمر الخيام ، والذى شغف به أيما شغف ، ثم توال ت الإبداعات الخالدة مثل غلبت أصالح،ياللى كان يشجيك انينى ، سهران لوحدى، يا ظالمنى، أغار من نسمة الجنوب ، ذكريات ،دليلى احتار،عودت عينى ،حيرت قلبى ،هجرتك ، أقبل الليل . كان يوم الثالث من فبراير 1975 إيذاناً بانكسار هذا الضلع ، توفت أم كلثوم ، لتنحسر معها ابداعات رامى والسلطانى ، فقلم الأول كاد أن يتوقف عن كتابة الشعر إلا من رثائها ، وعود الثانى أصيب باليتم فخرجت الحانه حزينة مكلومة ، وظلا على هذه الحال ، حتى لحق رامى بجوار ربه فى 5 يونيه 1981 ، هنا أدرك السنباطى بشفافيته المعهودة أن الوقت قد حان ، وان الأجل قريب، وأنه لن يتحمل الرسالة بمفرده ، فانطوت صفحة الإبداع فى 7 سبتمبر 1981 . الثنائى المضحك لم يشهد تاريخ السينما تعاوناً فنياً بحجم ذلك التعاون الذى تم بين الفنان الكوميدى اسماعيل يس والمخرج فطين عبد الوهاب، ارتبطا فى حياتهما ورحلا معا ، الأول استعان بضحكته المميزة وكوميديا الموقف الحاضرة والسخرية من ذاته فى خلق نجوميته الطاغية خلال فترتى الاربعينات والخمسينات ، فقدم الأفلام ، وغنى المونولوجات ،والثانى استطاع بذكائه أن يلتقط هذا الفنان ليصنع منه فنان الشباك الأول من خلال سلسلة أفلام تحمل اسمه فى ظاهرة لم تتح لغيره من الفنانين باستثناء "ليلى مراد " وإن كانت على نحو أقل . كون يس وفطين برفقة أبو السعود الإبيارى ثلاثياً متميزاً ، قادهم إلى اخراج سلسلة كاملة تحمل اسم "اسماعيل يس" كأفلام : " اسماعيل يسن فى الأسطول ،الجيش،البوليس الحربى، متحف الشمع،حديقة الحيوان،الطيران الحربى ،مستشفى المجانين .... " وهى أعمال تزيد عن 16 فيلم ، ولازم اسماعيل يس فى هذه السلسلة الفنان رياض السنباطى "الشاويش عطية " لتقديم مغامراتهم التى لا تنتهى فى تدبير المكائد لبعضهما البعض ، إلى جانب عدد من أبرز اللمثلين كزينات صدقى وعبدالفتاح القصرى واستيفان روستى ومحمود المليجى وحسن فابق وغيرهم . بدأ ينحسر نجم إسماعيل يس في الستينات عن المسرح والسينما شيئا فشيئا لأسباب عديدة منها ابتعاده عن تقديم المونولوج، وتكرار نفسه في السينما والمسرح بسبب اعتماده على صديق عمره أبو السعود الإبياري في تأليف جميع أعماله، ومرض القلب، وتدخل الدولة في الإنتاج الفني في فترة الستينيات، وإنشاء مسرح التليفزيون. تراكمت عليه الضرائب والديون، فاضطر إلى حل فرقته المسرحية عام 1966 ثم سافر إلى لبنان وشارك هناك في بعض الأفلام القصيرة. وشهدت هذه الفترة وفاة أبو السعود الإبيارى عام 1969 ، وانطفأ نجم يس ، وكم كانت الضربة موجعة حين توفى مخرج أفلامه فطين عبد الوهاب 11 مايو 1972 ، أصيب مضحك الملايين بحالة اكتئاب حادة على وفاة رفاقة ، وانحسار نجوميته ، وظروفه المادية الصعة فتوفى نتيجة أزمة قلبية حادة في 24 مايو عام 1972.