بالنسبة للمراقبين المتخصصين لم يكن سقوط الموصل وأجزاء كبيرة من وسط العراق ذي الغالبية السنية تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في 10 يونيو الحالي مفاجئًا، كما كان بالنسبة للعديد من السياسيين، وحتى المواطنين العاديين من سكان المنطقة والعالم. يقول زياد العلي، محرر مجلة "فورين بولسي": "لا شيء يثير الدهشة فيما حدث حول التطورات في العراق في الوقت الراهن، ولم يكن هناك مفر منه". يستطرد العلي: "قبل أربع سنوات، كان العراق في وضعية أمنية جيدة نسبيًا، ميزانية الدولة سخية، والعلاقات إيجابية بين الطوائف العرقية والدينية المختلفة في البلاد بعد سنوات من الفوضى عقب الغزو الذي قادته الولاياتالمتحدة عام 2003، ولكن النخب السياسية في العراق أهدرت هذه الفرصة - بحسب العلي. وخلال الفترة التي تلت احتلال القوات الأمريكية للعراق وبعد أن تصدرت الفوضى المشهد في معظم أرجاء البلد المحتل باستثناء المناطق الشمالية التي سيطر عليها الأكراد، ظهرات عشرات التنظيمات التي شكل أبناء الطائفة السنية –إن صح التعبير– غالبية أفرادها، وحملت على عاتقها مهمة "مقاومة قوات المحتل الأمريكي" ودحره، -وفق تقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية في وقت سابق- فإن الفترة ما بين عامي 2006، و2007 شهدت تحول أعداد كبيرة من مسلحي العشائر السنية من صفوف من قاتلوا القوات الأمريكية بعد الغزو إلى مقاتلة تنظيمات جهادية مسلحة في مقدمها تنظيم القاعدة، وأصبحوا حلفاء للأمريكيين يتلقون الدعم والتسليح منهم بدءًا من محافظة الأنبار، وعرفت تنظيماتهم بالصحوات. ويضيف التقرير إن "الصحوات" أصبحت القوة الوحيدة القادرة على فرض الأمن والاستقرار في مناطق نفوذها العشائري، حيث أخفقت القوات الأمريكية، والقوات الحكومية العراقية الضعيفة العدة والعدد حينها في أداء هذه المهمة، وبعد انتقال الملف الأمني من القوات الأمريكية إلى القوات العراقية، بات هؤلاء تحت إدارة الحكومة العراقية، وهنا اختلفت أوضاعهم بشكل كبير فالدولارات الثلاثمائة التي كانت القوات الأمريكية تدفعها لكل مسلح منهم لم تعد تصل بانتظام، وبات مصير "الصحوات" غامضًا تمامًا. أصبحت "الصحوات" تشكل "صداعًا" في رأس الحكومة العراقية، التي لجأت إلى دمج نحو 20% من منتسبيها ضمن القوات الأمنية، سواء أفراد الشرطة أو الجيش، فيما تم تسريح ال80% الآخرين تقريبًا، وينقل تقرير "بي بي سي" عن أحد عناصر "الصحوات" قوله: "كل الدوائر تعتبرنا منبوذين وليس لدينها أي حقوق." وهنا بدأت المشكلة الأساسية في الظهور حين أحس هؤلاء المسلحون المسرحون من "الصحوات" أنهم أضحوا منبوذين، ولم تفطن الحكومة العراقية برئاسة المالكي إلى خطورة تسريحهم، برغم ما اكتسبوه من خبرة كبيرة في قتال العصابات والسيطرة على المدن وحرب الشوارع، وبدأت قوى أخرى في استقطاب هذه العناصر في غفلة أو تجاهل من حكومة المالكي -التي استخدمت قوانين "اجتثاث البعث"، لاستهداف معارضيه- لتتحول عملية تشكيل الحكومة خلال عام 2010 إلى فرصة أخرى للسياسيين من جميع الانتماءات لمنح أنفسهم المناصب العليا التي يمكن أن تستخدم لنهب الدولة. وفي هذه الأثناء، وتحديدًا في فبراير من العام 2011م، خرج عشرات الآلاف من العراقيين إلى الشوارع احتجاجًا على الفساد، وتزامن ذلك مع اشتعال ما وصف بثورات الربيع العربي، وسريانها في العديد من دول المنطقة، ولم يكن تعامل الحكومة العراقية مختلفًا كثيرًا -برغم تباين الأوضاع في العراق- حيث وصف المتظاهرون بالإرهابيين وتعرضوا للهجوم والضرب على أيدي قوات الأمن، ومن وصفوا بالبلطجية، وقتل واعتقل وتعرض للتعذيب الآلاف حتى تلاشت الاحتجاجات. ونعود مجددًا لتقرير العلي الذي يقول: "في ذلك الوقت، بدأ المالكي في الإشارة إلى نفسه علنًا باعتباره القائد العسكري البارز في العراق، وعندما لم تتوافق نتائج انتخابات 2010 مع توقعاته، وقال إنه طالب بإعادة فرز الأصوات "بصفته قائدًا للقوات المسلحة"، وحتى بعد تشكيل الحكومة الجديدة في نوفمبر 2010، رفض المالكي تعيين وزراء للداخلية والدفاع، مفضلا شغل المنصبين بنفسه، وقام بتعيين كبار القادة العسكريين مباشرة، بدلا من الحصول على موافقة البرلمان على النحو المقرر في الدستور. وبحلول عام 2011، وكان الجو في تكريت قد تغير، ودمرت علاقة الثقة التي كان الجيش قد بناها مع سكان المدينة، والمنطقة الوسطى في العراق بصفة عامة، يضاف إلى ذلك ما عرف بفساد قطاع الأمن، والذي تعدت نسبته من الميزانية السنوية للدولة ميزانيات التعليم والصحة والبيئة مجتمعة، وتم الكشف عن شراء معدات بطرق ومبالغ مبالغ فيها، كما تم تمويل دورات تدريبية على الورق، ولم تجر قط على أرض الواقع، وتم تسييس التعيينات خاصة في المناصب القيادية لضباط الجيش والشرطة، كما لم يتعرض معظمهم للمساءلة عن أفعالهم التي شابها فشل ذريع في مواجهة هجمات منظمة ضد المسيحيين في نينوى، ما ترتب عليه انخفاض الروح المعنوية لدى الجنود والضباط، خاصة من ذوي الرتب الصغيرة، وأصبح هناك قليل جدًا من الرغبة في تحمل المخاطر نيابة عن النخب السياسية، الذين كانوا ينظر إليهم على أنها نخب فاسدة لدرجة بعيدة. كان هذا المناخ مناسبًا لعودة ظهور العديد من الجماعات المسلحة التي روعت السكان المحليين خلال الفترة ما بين عامي 2005-2007 ، قبل أن تستطيع قوات "الصحوات" فرض سيطرتها على مناطق نفوذها، وأصبح بمقدورها الظهور في وضح النهار مجددًا، وقد تزامن ذلك مع اندلاع الحرب الأهلية في سوريا في عام 2011م، لتفرض "داعش" حضورًا قويًا ومنظمًا على الأرض خلال عامين من اشتعال فتيل الحرب السورية، وتصبح رقمًا صعبًا في المعادلة السورية. ومع مرور الوقت وتزايد رقعة سيطرة "داعش" على الأراضي السورية، بدا أن التنظيم يكتسب ظهيرًا قويًا من تشكيلات قتالية سنية عديدة في العراق، ربما يصل تنظيم وقوة بعضها لمستوى أعلى من "داعش" نفسها، إلا أنها ربما كانت تفتقد الجرأة والمبادأة التي تمتلكها "داعش"، ولم تمر أشهر إلا وصحا العالم على نبأ سقوط "الموصل" وأجزاء عدة من وسط العراق في يد التنظيم ومؤيديه، والذي جاء بمثابة نتيجة طبيعة لما كان يحدث على الأرض خلال سنوات سابقة.