أحد الحفاظ المؤرخين المقدمين، حافظ المشرق، تصدق في مرضه الأخير قبل وفاته بكل ماله الذي بلغ مائتي دينار على حُفاظ الحديث والفقراء والفقهاء، وأوصى بالتصدق بملابسه بعد وفاته، وأوقف جميع كتبه على المسلمين، إنه الحافظ أبوبكر، أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، وُلد في 24 جمادي الأخر392 ه في الثلث الأول من شهر مايو 1002 م، نشأ في قرية درزيجان جنوب غرب بغداد، وهو شافعي المذهب قال عنه الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء": (الإمام الأوحد العلامة المفتي الحافظ الناقد محدث الوقت صاحب التصانيف وخاتم الحفاظ). والده أبو الحسن كان خطيباً للقرية وممن قرأ القرآن على يد أبو حفص الكتاني؛ ولهذا لُقب بالخطيب، فاهتم بابنه ودفع به إلى مجالس العلم، فسلمه إلى هلال بن عبدالله الطيبي لتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن والقرآت، فبرز نبوغه فحثه والده على سماع الحديث وهو في الحادية عشر من عمره، وأخذ الابن يسافر من بلد إلى آخر؛ ليحقق رغبته في تحصيل العلم فارتحل إلى البصرة وهو في العشرين من عمره، ثم ذهب إلى نيسابور وإلى الشام ومكة، وقرأ "صحيح البخاري" في خمسة أيام بمكة المكرمة على كريمة المروزية، فاشتهر بسعة علمه وروايته، كما جمع وصحح وعلل وجرح وعدل وأَرخ، فصار أحفظ أهل عصره على الإطلاق وكتب الكثير من الكتب التي تركت علامة بين أهل العلم وهم حوالي ستة وخمسون كتاباً أهمها "تاريخ بغداد" في أربعة عشر مجلداً، تُرجمت مقدمته في باريس في 300 صفحة على يد المستشرق سلمون، (الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع)، و(الكفاية في علم الرواية)، و(لبخلاء)، و(الأسماء والألقاب) وقد أوقف كتبه كلها، ولم يتوقف نشاطه على العلم والثقافة وإنما كان يقرض الشعر أيضا. تلقى القرآن عن الشيخ الهلال بن عبدالله الطيبي وكان قارئ للقراءات بالروايات، ثم أخذ يتردد على مجالس العلماء لتحصيل العلم منهم أبو حامد الأسفراييني، أبي الحسن بن رزقويه، وأبي بكر البرقاني، أحمد بن محمد المحاملي، ومن تلامذته أبو إسحاق الشيرازي والحافظ بن ماكولا. ومما يدل على سعة علمه أن بعض اليهود أظهروا كتابا ادعوا فيه أنه كتاب من رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادة الصحابة، وذكروا أن الخط هو لعلي أبن أبي طالب، وحمل الكتاب إلى رئيس الرؤساء (أبو القاسم بن علي بن الحسن)، فعرضه على الخطيب، فتأمله، وقال: هذا مزور، قيل: من أين قلت؟ قال: فيه شهادة معاوية، وقد أسلم عام الفتح 8هجرياً، وفُتحت خيبر سنة 7 هجرياً، وفيه شهادة سعد بن معاذ، ومات يوم بني قريظة قبل خيبر بسنتين، فأخذ أبو القاسم منهم الجزية. نال في رحلته إلى الشام الكثير من الذهب والثياب، ولكنه وزعه على المحدثين، فقد كان عالماً زاهداً، وتخطى علمه العلوم الشرعية حيث نظم الشعر ومنه: لا تغبطنَّ أخا الدُّنيا بزخرُفِها ولا لِلذةِ وقتٍ عجَّلتْ فرَحا فالدَّهرُ أسرعُ شيءٍ في تقلُّبهِ وفعله بَيِّنٌ لِلخلق قد وضحا كم شاربٍ عَسَلاً فيه مَنِيَّتُهُ وكم تقلَّد سيفاً مَنْ بهِ ذُبِحَا ذكر بن عساكر أن الخطيب عندما حج كان يدعوا بثلاث دعوات أن يحدث (بتاريخ بغداد) بها، وأن يملي الحديث بجامع المنصور، وأن يدفن بجوار بشر الحافي فأعطاه الله الثلاث. مرض في نصف رمضان واشتد به المرض في غرة ذي الحجة، وتوفي في 7 ذي الحجة 463 ه الموافق 4 سبتمبر 1071 عن عمر يناهز ال71 عاماً من العلم والتعلم والبذل للإسلام، وحضر جنازته العديد من أهل العلم وكانوا يرددون (مات من كان يذب عن رسول الله).