د. علي الدين هلال فى هذا الأسبوع يبدأ مجلس الشيوخ الأمريكى إجراءات محاكمة الرئيس الامريكى السابق ترامب بناءً على لائحة الاتهام التى صدَّق عليها مجلس النواب، والتى تضمنت تهمة التحريض على التمرد وأحداث الشغب التى أدت إلى اقتحام مبنى الكونجرس فى 6 يناير الماضي. ويثير ذلك جدلاً سياسياً وقانونياً واسعاً فى أمريكا. تنوعت الآراء والتقييمات بشأن هذه المحاكمة. فهناك من يرى أنه من الخطأ القيام بها لأنها تُعمِّق الانقسامات فى المجتمع الأمريكي، فى الوقت الذى يدعو فيه الرئيس بايدن إلى الوحدة والتضامن، وأنه لا يمكن إغفال حقيقة أن ترامب حصل على 74 مليون صوت بفارق 7 ملايين صوت فقط عن بايدن الفائز فى الانتخابات. ويؤكد رأى آخر عدم دستورية هذه المحاكمة أصلاً لأن إجراءاتها التى نص عليها الدستور تتعلق برئيس الجمهورية وليس بأحد عوام الناس، وأنه لمَّا كانت فترة رئاسة ترامب قد انتهت وأصبح أحد العوام، فإن المحاكمة تكون مخالفة للدستور، وتكشف أن الغرض الحقيقى منها هو تصفية الحسابات مع الرجل ومنعه من الترشح مرة أخرى لأى منصب فيدرالى مستقبلاً. ويشير رأى ثالث إلى أن هذه المحاكمة هى مضيعة للوقت، لأنه من المستحيل على الحزب الديمقراطى أن يكسب تأييد 17 من أعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الجمهورى لاكتمال نصاب الثلثيْن اللازم للموافقة. فى مقابل هذه الآراء يصر رأى رابع على ضرورة إتمام إجراءات المحاكمة حتى لا تكون هناك سابقة لتهرب الرئيس من عواقب قراراته، وأن المحاكمة هى بمثابة رادع لأى رئيس فى المستقبل، وأن هناك سوابق لوزراء وكبار مسئولين تمت محاسبتهم بعد أن غادروا مناصبهم. وإذا تجاوزنا هذه الموضوعات المتعلقة بما أقدم عليه ترامب فى الأسابيع الأخيرة من فترة ولايته، فإن هناك قضايا أعمق تتعلق بإصلاح نظام اختيار الرئيس فى أمريكا. إذ توجد مفارقة صارخة بين الطابع الديمقراطى للنظام بما يتيحه من حريات سياسية ومدنية واسعة للمواطنين وما يضمنه من سلطات للكونجرس فى التشريع والرقابة على الحكومة، وبين الطابع النخبوى لطريقة انتخابات الرئيس والقيود المفروضة على حرية الناخبين فى اختيار شخص الرئيس. بعض هذه القيود موجود فى الدستور ويُعبِّر عن فكر الآباء المؤسسين للدولة، وبعضها الآخر بفعل قوانين أصدرتها المجالس التشريعية للولايات، وبعضها الثالث بسبب ممارسات وإجراءات تطورت عبر الزمان. فعلى مستوى القيود التى فرضها الدستور، فقد حرص ممثلو الولايات المجتمعون فى مؤتمر فيلادليفيا عام 1787 على إبراز دور الولايات فى اختيار الرئيس، فأنشأوا نظام المجمع الانتخابى الذى يجعل الأصوات الانتخابية للولايات وليس أصوات الناخبين هى التى تحدد شخص الرئيس. ويعنى هذا عدم احترام مبدأ المساواة بين أصوات الناخبين، إذ يتفاوت وزن صوت الناخب من ولاية إلى أخرى وفقاً لعدد الأصوات الانتخابية للولاية التى ينتمى إليها. ولمَّا كانت قواعد المجمع تقضى بأن الحاصل على أغلبية أصوات أعضائه فى كل ولاية يفوز بجميع الأصوات المقررة لها مما يؤدى إلى إهدار أصوات ملايين الناخبين، فالفائز بأغلبية أصوات المجمع لا يكون بالضرورة الفائز بالأغلبية الشعبية. وقد تكرر ذلك أكثر من مرة كان من أحدثها انتخابات عام 2000 التى فاز فيها بوش الابن من الحزب الجمهورى ضد آل جور، وانتخابات عام2016، التى فاز فيها ترامب ضد هيلارى كلينتون. لم يكن هذا الحرص على دور الولايات من جانب واضعى الدستور الأمريكى تعبيراً عن الرغبة فى ضمان التوازن بين السلطة الفيدرالية الجديدة وسلطات الولايات وحسب، بل أيضاً تعبيراً عن عدم رغبتهم فى أن يكون اختيار الرئيس عن طريق الانتخاب الشعبى المباشر، بسبب تخوفهم من تقلبات اتجاهات عوام الناس وأهوائهم، وعدم قدرتهم على اتخاذ القرارات السليمة، وحذَّر بعضهم من حُكم الدهماء. وأخيراً، فقد أعطى الدستور للمجلس التشريعى فى كل ولاية سلطة إصدار القوانين الخاصة بطريقة اختيار أعضاء المجمع الانتخابى فيها. واتساقاً مع ذلك، فإن تنظيم الانتخابات الرئاسية أصبح من اختصاصات الولايات، والتى تختلف قوانينها والإجراءات المتبعة فيها بخصوص قيد الناخبين فى سجلات الانتخاب عند وصولهم السن القانونية وهى 18عاماً، وفى أسلوب التصويت وعما إذا كان بالحضور أو بالبريد، وتراوحت الممارسات بشأن الفئات المسموح لها بالتصويت من خلال البريد، وفى ولاية أوريجون صدر قانون عام 2000 يجعل التصويت إجبارياً بالبريد فقط. كما تختلف بخصوص شكل بطاقة التصويت والطريقة التى يُعبِّر بها الناخب عن تفضيله لأحد المرشحين. وبخصوص القواعد الخاصة بإدارة الحملات الانتخابية للمرشحين للرئاسة، فإنها أضعفت دور الأحزاب، ودعمت نفوذ جماعات المصالح. فإذا استثنينا حالة الحملة الانتخابية الأولى للرئيس أوباما والتى نجح فى حشد الملايين من صغار المتبرعين، فإن جماعات المصالح الاقتصادية تقوم بالدور الرئيسى فى تمويل حملات المرشحين، ويؤدى ذلك لأن يكون لهذه الجماعات تأثيرها على تشكيل سياسات الرئيس بعد فوزه. كما أنها تسمح لأى شخص أن يهبط بالباراشوت ويعتلى أعلى منصب فى البلاد دون أن تكون لديه خبرة سابقة تؤهله لهذا العمل. وترامب هو أفضل مثال على ذلك، فهو لم يعمل قط فى أى عمل حكومى ولم يتم انتخابه لأى منصب برلمانى قبل انتخابه رئيساً للجمهورية. بل إنه لم يتدرج فى العمل داخل الحزب الجمهوري، ولكنه نجح بماله وشخصيته الكاريزمية وخطابه الشعبوى فى حشد تيارات اليمين وترشيح الحزب له ثم فوزه فى الانتخابات. وكم فى تفاصيل نظام الحكم فى أمريكا من غرائب ومفارقات تستدعى التفكير والإصلاح.