«أصطاد أعضاءها بصوتى»: عنوان القصيدة الذى توقفنا بذكره عن الكلام المباح لاعتبارات المساحة فى آخر مقالتنا السابقة عن أحدث عمل شعرى صدر للكاتب والصحفى الزميل البهاء حسين بعنوان « يمشى كأنه يتذكر ». فى تلك القصيدة يدخل بنا البهاء حسين إلى عالم مألوف فى الحياة اليومية، حين يصوِّر الشرفة وحبال الغسيل والملابس المبلولة، فيقول: «الحبال تحب الملابس الملونة/ تعتقد أنها أطفال، دباديب تلثغ مثلهم/ تحب الحبال أن نمسح عنها التراب/ تنتشى بالماء».. ثم يتحدث عن المرأة التى وهبت نفسها للغسيل، ويذكر الحيل اليومية التى يلجأ إليها جارها لكى تخرج إلى الشرفة، ثم خيْبته ذات يوم لم تخرج فيه إليه، رغم أنه جرّب كل حيله: «جميل أن يصبح الصوت مصيدة؛ كميناً فى الهواء/ إذ تخرج حين تسمعنى أسأل البقّال من الطابق الرابع/ عن أشياء لا يبيعها/ أعددت قائمةً بما لا أريد لأستمر فى السؤال/ دخّنت آلاف السجائر/ كنتُ أنفخ الدخان بقوة فى اتجاهها/ كأننى أُبَخِّر بياضها/../ لكنّ صوتى لم يعد قادراً على استدراجها/ فلمن أدخن؟». فى هذا الجو الحميم، تختلط الشاعرية بالفكاهة، وهو أمر نادر فى الشعر، خاصة شعر الفصحى ، لنصل بعدها إلى ذروة سيريالية، حين يخاطب الجار جارته شاكياً لها حاضره المؤلم، مستنجداً بها: «انشرينى../ علّقى حاضرى جنب قميصك الأحمر/ أو دعيه يسقط/ كأنه مشبك». ذلك أن حاضره هش، ينسل بسرعة ويصبح خِرقة. لقد استطاع البهاء حسين فى هذه القصيدة، أن يأتى بشعر أظنه غير مسبوق، جمع فيه بين الأليف اليومى وبين العجائبيّ؛ بين الضحك وبين البكاء؛ فى قصيدة حُب استثنائية، أمرها عجيب بين قصائد الحب.. وكل هذا يتطلب جرأة ومغامرة وجسارة أمام المتلقى، كمن يمشى على الحبل، حبل الشعر لا حبل الغسيل! وفى قصيدة أخرى بعنوان ثقبتنى التجربة، يعود الشاعر إلى نغمة أراها الرئيسية فى هذا الديوان، وهى الشجا الذى تبعثه فى النفس أزمة منتصف العمر، بعد بلوغ الأربعين، فيقول فى مفتتح القصيدة: «صرت أنسى كل شىء بسهولة/../ أصبحتُ مثل جسدى بعد الأربعين/ أشبه ما أكون بخرابة/ غير مأهولة حتى بالذكريات».. وينفق البهاء حسين معظم سطور هذه القصيدة محاولاً أن يستنهض ذاكرته، لكنها تأبى أن تعود، وإن عادت تكون قد فقدت بريقها ووهجها القديم: «مررت على تجاربى/ متوقعاً أن تتقد مرة أخرى ما دمتً تذكرتها/ لكننى صرتُ مَوْقِداً بلا جمرات»، أو، بصياغة أخرى لنفس المعنى، يقول: «مررتُ على مؤونتى من الذكريات/ فاكتشفتُ أنها هى الأخرى تقدمت فى السن». ويتساءل الشاعر، مثلنا جميعاً، خاصة من توغل منا بعض الشىء فى مشوار العمر: «هل يُعقل مثلاً أن أنفق نصف يومى/ أبحث عن أشياء فى يدى؟». ويستمر الشاعر عبثاً فى مروره على ذكرياته التى، مثل جسده، أدركها التعب، فيقول ملخصاً الأمر كله: «بعد الأربعين/../ ننسى الجسد الذى كان يهز ذيله من السعادة مثل جرو/ الجسد الذى يشبه برج حمام/ سرعان ما يفقد قدرته على الطيران/.. وبقايا الحطب الذى أوقدناه بالأمس/ ولم يعد يذكرنا/ سرعان ما تذروه الرياح». لقد كتب البهاء حسين ، فى هذا الديوان وفى غيره، قصائد نجح خلالها أن يكون مختلفاً؛ ليس عن الآخرين فقط، بل عن نفسه أيضاً. فهو يسعى لأن يلمس فى كل قصيدة، قدر المستطاع، عِرقاً ما من معادن الأرض والنفس، والشعر الذى يعبر عنهما. فقد أبدع فى هذا العمل، مثلاً، قصيدة عن الرقص، وقصائد أخرى عن الأيدى، وعن البيت وشرفة البيت. فهو دائماً يبحث عن عمود فقرى لقصائده؛ عن موضوع أو صورة أو تجربة حياتية تكون بؤرة لرؤيته فى القصيدة. وأراه قد نجح فى ذلك، وفى الإتيان بلغة تجمع بين البساطة والإدهاش. نقلا عن صحيفة الأهرام