يا سبحان الله..هل هذا عقل طبيعي؟ هل هذه نفس سوية؟ قد يبدو السؤال صداميًا مستفزا، فسامحوني لأن كل ما أثير في الفترة الأخيرة يبدو عبثيًا، سيل من الفتاوى اللا منطقية انشغل بها المجتمع وانقسم حولها وتندر عليها، ولم يعد بعد إلى جادة الصواب، وقد يظل على حالة الصاخب دون طائل لفترة، لكن ما يلفت النظر أن هذه الفتاوى كلها تتعلق بهاجس الجنس، والعلاقة الخاصة مع الأنثى، سواء كانت طفلة أو زوجة ميتة، أو حتى بهيمة من عالم الحيوان، كما لو أن تلافيف عقل الشرقي مكونة من خلايا جنسية فحسب. وفتوى معاشرة الزوجة الميتة بأنها لا تعد "زنا" نالت النصيب الأوفر من ضجيج المجتمع وطبوله الساخنة، صحيح أن تفاصيل الفتوى أهملت عمدًا، وهي تفسر لماذا أفتى الدكتور صبري عبد الرؤوف أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر بها، حتى تشتعل الإثارة وترتفع إلى ذروتها، وقد تبدو الفتوى شاذة فعلا، لكنها كانت إجابة عن سؤال من مواطن فقد إنسانيته، وفسد وجدانه أو ضاع إحساسه بالقيم وبرهبة الموت وجلاله، فالرجل سأل عن حكم الشرع فيه؛ لأنه عاشر زوجته بعد موتها مباشرة؟ حالة خاصة وفريدة جدًا يستحق صاحبها أن يودع في مصحة عقلية للكشف عن مدى سلامة عقله، لا أن يُجيب عليه الدكتور صبري حتى لو أنبه ونال من سلامة نفسيته.. والأخطر أن هذه فتوى لشخص في ظرف نادر فكيف يشاع أمرها على الملأ، كما لو أنها الإجابة الحاسمة على سؤال الساعة الأغرب، وفِي الحقيقة لا أعرف من أي المنابع الشرعية استقى الدكتور صبري فتواه، فلا أصل ولا مقاربة لها في القرآن الكريم، ولا في الأحاديث النبوية ذات المصادر الموثوق بها. وما أهمية الرد على سؤال شاذ، فيتحول إلى موضوع رأي عام، في مجتمع بدا مهمومًا بتوافه الأمور، وهو في أشد الحاجة إلى إعمال عقله لإخراج نفسه من هاوية التخلف التي سقط فيها وقبع منذ عشرات السنين! أتصور أن الدكتور لم يعمل بقاعدة مهمة، وهي درء الضرر مقدم على جلب المنفعة، فضرر هذا النوع من الفتاوى على عموم المسلمين في أرجاء الكرة الأرضيّة نفسيًا وعقليًا وفكريًا والأهم دينيًا، من إراحة ضمير "فرد" عاشر زوجة ميتة إذا كان هذا قد حدث فعلًا، ولا يتسلى بالبحث عن غرائب الفتاوى.. وكان البحث عن هذه الفتاوى الغريبة قد حدث مع نهايات الدولة العباسية، بعد أن نخر فيها السوس وتهاوت حضارتها وتراجع عقلها وانحط، فكنت تجد رجال الدين يتنطعون على طريقة أهل بيزنطة، ويدخلون في مشكلات سفسطائية جدلية، كأن يسألوا: ما هو حكم الشرع في وضوء رجل حمل قربة مملوءة بالفساء على ظهره، هل تبطل وضوءه؟ ويفكر الرجال ويبحثون عن إجابة، دون أن يفكروا ولو لحظة في منطقية السؤال، ومدى احتمال حدوثه فعليًا.. أما صاحب فتوى زواج الطفلة، ولو كان عمرها يومًا واحدًا في مهدها، وهو داعية سلفي لا اعرف كيف لهف لقب داعية، فالرد عليه مضيعة للوقت، وعدم تقديمه للمحاكمة متهمًا بإفساد حياة الناس السوية إهمال لا يجوز. وهو نفس الحال مع مفتية عدم جواز معاشرة البهائم، كما لو أن معاشرة البهائم كانت مباحة أو مسموحًا بها أو عملا مقبولا، وقد لا نقبل اعتذارها، ونطلب منها أن تخفي لسانها داخل فمها ولا تنطق، حتى تتعود على التفكير العلمي المنظم قبل أن تتفوه بكلمة واحدة.. قطعا نحن نعيش في زمن انحطاط، وقد يكون التعبير قاسيًا، لكنه صحيح للأسف، يتجرأ فيه على الإفتاء كل من قرأ بضعة كتب منفردًا، أو درس بضع سنوات قليلة في الأزهر، فتكاثر عندنا المفتون إلى درجة مذهلة، وصار عددهم أكثر من عدد جنرالات المقاهي وأٌجّراء المظاهرات والباعة الجائلين، مع أن الإسلام واضح ومحدد في شروط الإفتاء العام، وكان معمولا بها في زمن الخلفاء الراشدين، وزمن الدولتين الأموية والعباسية، وإن خرج البعض عن هذه الشروط وأفتى في بعض الناس والتابعين، فوقعت الفتن واشتعلت الحروب وسٌفكت الدماء، ومازالت، ويبدو أننا لا نتعلم بسهولة ولا نتعظ من تاريخنا. [email protected]