رصد العدد الرابع من إصدار "ذاكرة مصر المعاصرة" - أحد أهم مشروعات مكتبة الإسكندرية الرقمية التي تؤرخ لتاريخ مصر- نشأة الأحزاب المتعددة التي تحمل اسم "الحزب الوطني" عبر تاريخ مصر، وهو البحث الذي أظهر مفاجآت وطرائف، فبعض تلك الأحزاب ناهض الاحتلال ودافع عن حق مصر في الاستقلال، والبعض الآخر تطرّف وتحيز للاحتلال، وآخر أسسته النساء. ويؤكد الباحث محمود عزت في مقال بذاكرة مصر الحديثة بعنوان "الوطني.. تعددت الأحزاب والأهداف والمسمى واحد"، أنه بتتبع ظهور واختفاء الأحزاب السياسية في مصر يتضح أن "الوطني" كان اسمًا لعدد كبير من الأحزاب السياسية. ولعل من المفارقات أن أول حزب سياسي في مصر كان "الحزب الوطني" القديم الذي تأسس في 13 أبريل عام 1879، بينما يحمل الحزب الحاكم حاليًا نفس الاسم؛ وهو: "الحزب الوطني" (الديمقراطي). وكان لكل حزب من الأحزاب التي كانت تحمل اسم الحزب الوطني، ظروف نشأة مختلفة عن الآخر، وبرامج وأهداف اختلفت باختلاف الفترة الزمنية التي نشأ فيها الحزب. ف"(الحزب الوطني) القديم" ظهر عام 1879، وتأسس في البداية سرًّا لمقاومة الاحتلال والدعوة لاستقلال مصر ودعم علاقتها بالباب العالي. وهناك "الحزب الوطني" الذي أسسه مصطفى كامل عام 1907، وكانت صحيفة اللواء هي الجريدة الناطقة بلسان الحزب ومبادئه، بينما تأسس "(الحزب الوطني) الحر" كحزب مدافع عن المحتل البريطاني وكعدو للحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل. وكان محمد وحيد الأيوبي هو الذي أنشأ الحزب الوطني الحر في يوليو عام 1907؛ حيث كان يمثل القوى الضاربة في الحزب، بمعاونة نشأت بك ولم يبدأ نشاط الحزب الحقيقي والعملي له إلا عام 1908. وقد تغيّر اسم الحزب في مارس عام 1908 إلى "حزب الأحرار"، وكانت جريدة المقطم تمثل الدرع الواقي للحزب الوطني الحر ضد حملة الهجوم التي شنتها جريدة اللواء على ذلك الحزب الجديد، ومهاجمتها للسوريين المسيحيين لاتهامهم بالاستيلاء على المناصب المهمة في الدولة. وكان تحيّز الإنجليز للمقطم والحزب الوطني الحر هو الذي جعل المصريين يتخذون موقفًا غير ودي تجاه هذا الحزب. وقامت جريدة المقطم بالفعل بحملة للدفاع عن فوائد الاحتلال والخدمات التي قدمها لمصر، وتجمّع الأقباط الأرثوذكس السوريين حول الحزب، إلى جانب بعض الأغنياء الذين رأوا في الحزب الوطني الحر وتطرفه عملاً أضمن، وكان يقودهم محمد وحيد الأيوبي، الذي أصبح زعيمًا للحزب الوطني الحر. ويذكر الباحث محمود عزت أن الحزب الوطني الحر كان حزبًا متطرفًا إلى درجة كبيرة، فقد كان تحيزه للاحتلال الانجليزي وحرصه الدائم على إظهار محاسن الاحتلال والخدمات التي قدمها لمصر والمصريين، بمثابة الشرارة التي اشتعلت بين الأحزاب المصرية واعتباره حزبًا عميلاً للإنجليز. وكان محمد وحيد الأيوبي زعيم الحزب شجاعًا إلى درجة أنه كتب مقالاً في عام 1908، نشره في جريدة المقطم يودع فيه اللورد كرومر بحرارة ويرحب بحرارة أكثر بالمستر جروت خليفته في قيادة الإنجليز في مصر. ولم يكتف محمد وحيد الأيوبي بهذا الموقف، ولكنه أقدم على موقف أكثر جرأة عندما نشر في المقطم خطابًا مفتوحًا في سبتمبر 1908 إلى السير إدوارد جاي، تحدث فيه عن المنافع والآيات التي أسبغها الاحتلال البريطاني على مصر. وعن مصطفى كامل وحزبه الوطني، يبين عزت أنه في 22 أكتوبر 1907، ألقى مصطفى كامل في مسرح زيزينيا بالإسكندرية أكبر خطبة سياسية وطنية ألقاها في حياته، جعلها بمثابة دعوة عامة إلى الانضمام إلى الحزب الوطني، واتخذ الجلاء مبدأ للحزب، حتى صار أصح تعريف له أنه حزب الجلاء. ودعا مصطفى كامل الأمة في خطبته إلى الانضمام للحزب الوطني، وقد تشكّلت لجنة مؤقتة للتحضير لاجتماع الجمعية العمومية للحزب، ووضع لائحة له تُعرض على هذه الجمعية، فانهالت طلبات الانضمام من كل جانب. وعقدت أول جمعية للحزب يوم الجمعة الموافق 27 ديسمبر عام 1907 بدار جريدة اللواء، وكان اجتماعًا حافلاً شارك فيه مختلف طبقات الأمة من أعيان ومزارعين ومحامين وتجار وأطباء ومهندسين وأرباب أعمال وصناع. أما "الحزب النسائي (الوطني)" فقد أسسته مجموعة من النساء المدافعات عن المرأة والمطالبات بنيلها كامل حقوقها السياسية والاجتماعية والقومية. وطالبن بتعديل الدستور والمساواة بين الرجل والمرأة وقبولها في كافة وظائف الدولة دون تمييز. وأخيرًا، يشير عزت إلى أن "(الحزب الوطني) الديمقراطي" أسسه الرئيس السادات عام 1978، وتولى رئاسته حتى وفاته في 1981؛ حيث حلّ محل حزب مصر العربي الاشتراكي الذي تطور عن منبر الوسط. وظهرت فكرة تأسيس الحزب عام 1978 بعد مشاورات بين القيادة السياسية وعدد من السياسيين تركزت حول التطورات المحلية والدولية، وكنتيجة لهذه المناقشات بدا أن القيادة السياسية اقتنعت بإنشاء حزب جديد يحمل على عاتقه روح ثورة يوليو ويكون حزبًا شعبيًا جماهيريًا يملأ الفراغ الذي لم تستطع ملأه الكيانات الحزبية القائمة، ويكون هذا الحزب بمثابة القاطرة للحياة السياسية المصرية. وتمت تسمية الحزب ب "الوطني الديمقراطي" كتجسيد للامتداد مع الحزب الوطني الذي أسسه الزعيم مصطفى كامل الذي جسد معاني الوطنية المصرية. وتم الإعلان عن الأمانة العامة المؤقتة واللجنة التأسيسية للحزب في أغسطس 1978، وضمت عضوية اللجنة رؤساء الجامعات والنقابات وعددًا من رجال الفكر والعلماء. واتخذ الحزب من منزل الزعيم مصطفى كامل بالقاهرة مقرًا رئيسيًّا له، على أن يكون للحزب مقار فرعية في عواصم محافظات الجمهورية ودوائرها الانتخابية. يذكر أن مجلة ذاكرة مصر المعاصرة هي مجلة ربع سنوية تصدر عن مشروع ذاكرة مصر المعاصرة بمكتبة الإسكندرية؛ وهي المكتبة الرقمية التي تضم تاريخ مصر من عهد محمد علي وحتى نهاية عصر الرئيس الراحل محمد أنور السادات.