إن الابتسامة المشرقة التى تضىء الوجه وتسفر عن أسنان لؤلؤية ولامعة دوما قد لا تشى بطاقم الأسنان الذى تم تصنيعه بأعلى تكنولوجيا وأحدث ثورة صناعية يشهدها العالم فى العصر الحالي. والفضل يعود إلى تقنية الطباعة التراكمية أو الثلاثية الأبعاد باستخدام تلك الطابعة التى لا يقل ثمنها عن مليون دولار والتى أنتجت عشرات الملايين من أسلاك التقويم والكبارى والتركيبات الصناعية التى تملأ ملايين الأفواه فى العديد من بلاد العالم. وتشير مجلة الإيكونومست إلى أنه منذ ما يقرب من نحو 5 آلاف عام استعان أطباء الأسنان بتقنية الصب وذلك بعمل نموذج لأسنان المريض غالبا ما يكون مصنوعا من الشمع ثم يغلف بعد ذلك بالسيراميك، ليتم تسييل الشمع ويصب المعدن المنصهر فى الفراغ الناتج بعد إزالة الشمع، وعند فتح مظروف السيراميك، يتم الحصول على “السِّنَة” أو الضرس المعدنى، والحقيقة أن العملية تحتاج إلى عمل مكثف والنتيجة قد تفتقد إلى الدقة والإحكام. والصناعة الآن مختلفة، ففى ميسكن بالقرب من كارديفو فى إحدى الشركات الصناعية الإنجليزية توجد ثلاث طابعات تراكمية تطبع الأشكال المجسمة أو الثلاثية الأبعاد ومقرر أن يزداد عددها فى أقرب وقت. والجدير بالذكر أن كل طابعة تنتج ما يقرب من 200 تركيبة من الأسنان والضروس الاصطناعية والكبارى فى دفعة واحدة معتمدة على فحص وصور رقمية دقيقة من فك المريض، وتستعين الطابعة بشعاع الليزر للصق طبقات من بودرة سبائك الكوبالت والكروم لتحقق الشكل المطلوب. إن العملية تشبه عملية انتظار جفاف الطلاء وتستغرق ما يتراوح بين 8 أو 10 ساعات ولكن الطابعة تعمل وحدها بدون مراقبة أو إشراف فنى وتنفذ الشكل الفريد الذى يطابق ويلائم فم كل مريض. وفى النهاية يتم شحن المنتج إلى معامل الأسنان الاصطناعية المنتشرة فى أوروبا ليبدأ فنى الصناعة فى إضافة طبقة البورسلين ذات اللون العاجى أو الضارب إلى الأبيض بدرجاته المختلفة. والحقيقة أن الطباعة التراكمية لم تجرب فقط فى مجال تركيبات الأسنان والضروس ولكنها اقتحمت مجالات طبية اخرى مثل عمل نماذج للأذن الخارجية وقوقعة الأذن وذلك منذ عام 2000، كذلك هناك المفاصل وعظام الفك السفلي، كما استفادت بمئات الآلاف من الجراحات من تلك النماذج التعويضية والأجهزة المصنعة بواسطة هذه التقنية. وقد تبنى قطاع الرعاية الصحية تقنية الطباعة التراكمية لمقدرتها على تنفيذ أجزاء تعويضية بمساعدة برامج التصميم، لتصنع الشكل المطلوب من مواد عديدة تختلف باختلاف العضو المصنع، والحقيقة ان الفحص الطبى يعمل بالضبط كملف برنامج التصميم حيث يعد برنامج التصميم هو الوسيلة الأسرع والأوفر للحصول على المطلوب. وعلى الرغم من أن سوق الطباعة التراكمية يعد الأصغر حجما خاصة عند مقارنته بسوق الآلات والأدوات والعدد الذى يبلغ نحو 70 مليار دولار، فإنه ينمو بسرعة تصل إلى 62% ليس فقط فى القطاع الطبى ولكن فى قطاعات أخرى ليبلغ 5.2 مليار دولار كما قد يصل تأثيره الاقتصادى إلى نحو 550 مليار دولارا سنويا بحلول عام 2025. ويعد التقدم فى مجال هندسة المواد واحدا من أهم أسباب الاتجاه إلى الطباعة التراكمية حيث تمثل مادة الأحبار المستخدمة أهم مدخلات هذه الصناعة، وذلك وفقا لما صرح به أندى ميدلتون الرئيس الأوروبى لشركة ستراتاسيز التى تعمل فى هذه الصناعة التى تستخدم نفس طريقة دفق ودفع الأحبار فى الطابعة التقليدية ولكنها تستبدل بالحبر المادة المطلوب تشكيلها، حيث تقوم الخرطوشة بدفق مادة تترسب ليتم معالجتها بعد ذلك بالأشعة فوق البنفسجية. وقد نجحت شركة ستراتاسيز بإطلاق نموذج جى 750 المعدل من الطابعات الذى يستخدم عدة خراطيش فى آن واحد لتطلق مجموعة مركبة من 6 مواد مختلفة بتمايز يتراوح بين المرونة أو الصلادة، والشفافية أو الإعتام وبألوان متعددة قد تصل إلى 360 ألف لون. وعلى الجانب الآخر، تتيح الطابعة إمكانية طباعة حذاء كامل بنعل من المطاط ووجه مصنوع من مادة تشبه الجلد الطبيعى دفعة واحدة، والحقيقة أن مقدرة الطابعة على صناعة نماذج ومنتجات حقيقية فى صورتها النهائية يسرع من تداولها بالأسواق، مما حدا ببعض الملاحظين إلى القول بأن هذه الصناعة تجتاز مرحلة التجريب إلى النضوج بل إن دراساتهم للأسواق تؤكد أن ثلثى المصنعين الأمريكيين يستعينون بهذه التقنية بطريقة أو بأخرى. كذلك استعانت شركة ستراتاسيز بتقنية بناء طبقات متعددة من اللدائن بعضها فوق بعض باستخدام الحرارة وإمرارها فى أداة مثقبة لإعطائها شكلها النهائي، وتستخدم إيرباص هذه الماكينة ومادة الراتينج المعالجة - التى تلبى متطلبات الأمان والسلامة على متن الطائرات الحديثة - لطباعة مستلزمات الكابينة، كما تطلبها شركات الطيران خصيصا لراحة المسافرين، وبذلك فإن الطابعة تسمح بصناعة عدد من المكونات على أنها جزء واحد أو قطعة واحدة، لا تحتاج إلى تجميع مما يوفر الوقت والجهد والمال. وتشير التوقعات بقرب استعانة صناعة السيارات أيضا بهذه التقنية خاصة عند تصنيع هياكلها المعدنية المتغضنة. ومن ناحية أخرى، ما زالت هذه الصناعة تحتاج إلى تطوير خاصة فيما يتعلق بالتشطيب النهائى للأسطح وقد برهنت منتجات هذه التقنية على تحمل الضغوط، فقد أنفقت شركة جى أى 50 مليون دولار لشراء الطابعة ووضعها فى مصنعها بأوبورن بولاية ألباما الأمريكية وذلك لإنتاج وطباعة 40 ألف مسدس وقود كل عام دفعة واحدة والاستغناء عن تجميع 20 جزءا لمسدس الوقود، وسوف تتم صناعة المسدس من سبيكة ممتازة من الكوبالت والكروم والموليبدينوم تتفوق من حيث وزنها الأخف بنحو 25 مرة على الأقل بالمقارنة بمعادن اخرى، والمعدن أكثر تحملا بنحو 5 مرات على الأقل مما يجعل المسدس الجديد أفضل من ذلك التقليدى. وتقوم شركات هندسة المواد بابتكار مواد ومكونات تصلح للطباعة التراكمية، فعلى سبيل المثال هناك شركة ألوكوا المنتج الأساسى للألومنيوم التى أعلنت عن أنها سوف تمد طائرات الإيرباص بأجزاء أخرى، إلا أن الشركة بصدد إنفاق نحو 60 مليون دولار على مركزها البحثى الكائن فى ولاية بنسلفانيا للإسراع فى تطوير هذه التقنية. وقد بدأت الطابعات التراكمية الضخمة فى الظهور، حيث تعمل شركة معامل ريدج الوطنية بولاية تنسى الأمريكية مع شركة أخرى للموتورات المحلية فى طباعة السيارات أو هياكلها مستخدمة فى ذلك مزيجا من مادة البلاستيك وألياف الكربون، كما بدأ المعمل فى التعاون مع شركة سكيدمور أوينج ومريل وهى شركة هندسية لطباعة أجزاء أساسية فى المبانى والفكرة هى تطوير عملية البناء التراكمى بدون نفايات أو فاقد فى مواد البناء. ويعتقد العديد من مديرى المصانع أن تقنية الطباعة التراكمية لن تحل محل الصناعة التقليدية، ولكننا نؤكد أن هذا يجب ألا يكون هو الهدف، ولكن يمكن أن يتم إدماج التقنيات والأساليب التقليدية للصناعة مع تقنية الطباعة التراكمية التى تتحسن بفضل التكنولوجيات الرقمية. كذلك قامت شركة ليت أون الصينية بتركيب الطابعة الثلاثية الأبعاد فى مصنعها بجانج زاهو الذى يعمل فى تصنيع أجهزة المحمول والعديد من الأجهزة الإلكترونية الحقيقية التى يمكن حملها. وتستخدم الطابعات هناك عملية دفق للدخان وذلك لتكثيف رذاذ من حبيبات متناهية الصغر داخل عوارض محكمة الغلق، مما يمكنها من طباعة أجزاء غاية فى الصغر والدقة تصل إلى 10 مايكرون (المايكرون يساوى واحدا على مليون من المتر) وتستخدم شركة ليت أون هذه الماكينات لطباعة الدوائر الإلكترونية والهوائيات والحساسات ليتم تركيبها بعد ذلك فى الأجهزة بواسطة الإنسان الآلى أو حتى بالأيدى البشرية. وفى نهاية الأمر لا يسعنا إلا الانتظار لأن تحل هذه التقنية فى الورش والمصانع فى جميع أنحاء العالم وعندها نقول إننا قد حققنا ثورة صناعية أخرى وبدأنا بالفعل عصرا جديدا.