مظاهرات الفرنسيين العنيفة احتجاجا على فرض ضريبة على الوقود فاجأت الحكومة هناك وباتت تهدد البرنامج الإصلاحي للرئيس إيمانويل ماكرون. شدة مظاهرات أصحاب السترات الصفراء دفعت الشرطة الفرنسية إلى استخدام الغازات المسيلة للدموع ورش المياه على المحتجين بل الاشتباك معهم واعتقال العشرات بعد أن تسببت الاحتجاجات فى قطع الطرق ونهب المحال التجارية حتى فى جادة الشانزيليزيه أفخم شوارع العالم، وفى مشهد يحاكى مظاهرات الجياع فى دول العالم الثالث! التقارير الوفيرة التى خرجت من فرنسا خلال الأيام الأخيرة تحمل الكثير من المرارات على لسان المحتجين من مختلف الأعمار، كلها تتلخص فى أن الدافع الرئيسى وراء الاحتجاج هو عدم مناسبة الدخول لمواجهة تكاليف الحياة المتزايدة، وأن مظاهر الفقر أخذت فى الانتشار ليس فقط بين الشرائح الدنيا وإنما امتدت لأصحاب الدخول المتوسطة وفوق المتوسطة فى فرنسا إحدى الدول الصناعية السبع وصاحبة ثانى أكبر اقتصاد فى أوروبا. قضية ضعف الأجور واتساع الفجوة فى الدخول بين أبناء البلد الواحد باتت ظاهرة عالمية ولاسيما بعد الأزمة المالية العالمية فى 2008 بل نتيجة لها، وكلنا بات يعلم الآن أن الهوة بين الدخول كانت واحدة من أسباب صعود اليمين الفاشى واليسار المتطرف فى أوروبا، والتى تنتقل بسرعة إلى أنحاء العالم بعد ظهور ترامب فى الولاياتالمتحدة ورودريجو دو تيرتى فى الفلبين، وأخيرا جير بولسونارو فى البرازيل. الظاهرة شدت انتباه الأكاديميين فى أوروبا وأمريكا وهى كذلك محل اهتمام متصاعد فى الإعلام الغربى، غير أن غياب مؤشرات شاملة يضعف قيمة النتائج والآراء فى هذا الشأن. الأسبوع الماضى أطلقت منظمة العمل الدولية تقريرا بالغ الأهمية حول أوضاع الأجور فى العالم تضمن العديد من المؤشرات المقلقة، وإن كانت فى الوقت نفسه تصلح أساسا لمعالجة قضية الأجور سياسيا بصورة تجنبنا أخطار تدنى الدخول وعدم المساواة بين المواطنين فيما يحصلون عليه من أجر. التقرير الذى يستند إلى أرقام ومعلومات جرى جمعها من 136 دولة أشار إلى أن معدل النمو العالمى فى الأجور خلال العام الماضى كان الأقل منذ عام 2008 حيث انخفض إلى 1.8% فى 2017 مقابل 2.4% فى 2016 وتوقع أن يستمر التباطؤ خلال العام الحالى، التقرير ذكر أن المعدل الوسطى لنمو الأجور فى دول مجموعة العشرين المتقدمة تراجع من 0.9% فى 2016 إلى 0.4% العام الماضى أى أكثر من النصف، أما فى الدول العشرين النامية والأقل نموا فقد تراجع أيضا النمو الحقيقى للأجور من 4.9% فى 2016 إلى 4.3% فى 2017. ونوه التقرير بظاهرة محيرة تتمثل فى أن هذا التراجع فى نمو الأجور يتزامن مع الانتعاش الاقتصادى الذى تحققه هذه الدول وزيادة معدلات النمو فى الناتج المحلى الإجمالى وتراجع نسب البطالة، وخلال العشرين سنة الماضية تضاعفت معدلات نمو الأجور فى الدول العشرين الأقل نموا ثلاث مرات فيما زادت الأجور فى دول مجموعة العشرين المتقدمة بنسبة 9% فقط! مدير منظمة العمل الدولية جى رايدر دعا فى خلاصة التقرير السياسيين حول العالم إلى التشارك مع الخبراء الاجتماعيين للبحث عن حل لمعضلة الأجور وضمان النمو المستدام فى الدخول من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية، وحذر من استمرار ما أسماه الأجور الراكدة، مؤكدا أنها تمثل عقبة أمام نمو الاقتصاد وارتفاع مستويات المعيشة. فى مصر لا يوجد لدينا مؤشر شامل لبيان معدلات نمو الأجور فى مختلف القطاعات، لكننا نعرف أن باب الأجور والمرتبات فى موازنة الدولة الحالية زاد بنحو 11% على الموازنة السابقة ليصل إلى 266 مليار جنيه، كما أن هناك توافقا غير إجبارى بين وزارة العمل وممثلى القطاع الخاص على منح زيادة سنوية للعاملين بنحو 10% كحد أدنى، أما القطاع غير الرسمى فأحوال الأجور فيه تتسم بالغموض شأنها شأن كل مؤشرات الاقتصاد الخفى، ورغم أن هذه الزيادات تفوق معدلات النمو فى الدول النامية فإن التضخم المرتفع الذى نعانى منه كأثر من الآثار الجانبية لبرنامج الإصلاح المالى والنقدى يبتلع القيمة الفعلية لهذه الزيادات.