سعدي يوسف القِطارُ، بالعربية الأصيلة، يعنى قافلة الإبِل، التى تسير فيها الرواحلُ، راحلةً إثْرَ أخرى، فى خطٍّ مستقيمٍ . وكما ورد عند ابن منظور فى " لسان العرب ": القطارُ أنْ تَقْطُرَ الإبِلُ بعضَها إلى بعضٍ على نسَقٍ واحدٍ. والحقُّ أنّ حظَّنا، نحن العرب، من القطارِ، ظلَّ متّصلاً بابن منظور، حتى اليوم . أى أننا لم نُحَقِّقْ منافع القطار، ومسالكَه، خطوطاً وتخطيطاً . حتى قطاراتنا القليلة هى بطيئةٌ، مقايَسةً بقطارات الآخرين . أقرأُ " قطار الشرق السريع " Orient Express لأجاثا كْرِسْتي، فأستمتع بمشهدِ القطار وعرباته ورُكّابه، كأننى فى عالَمٍ مسحورٍ . الهشة إيّاها أشعرُ بها وأنا أقرأ غراهام غرِين وقطارات مهرِّبية ومغامريه. وأسافرُ على قطار "اليوروسْتار" تحت الماء، من لندن إلى باريس وبْروكسل . وقد يأتى يومٌ نسافرُ فيه على قطارٍ طائرٍ . ألسنا نسافر الآن فى حافلةِ رِيحٍ ؟ Air Bus... * فى العراق، مدَّ الإنجليز سككَ حديدٍ للإسراع فى نقل جنودهم حين احتلّوا البلد . الحكومات المتتالية فى هذا البلد لم تُضِفْ خطوطاً يُعتَدُّ بها، حتى الآن ... الأمرُ مفهومٌ . قبل الحرب العالمية الأولى، كان بمقدور المرءِ أن يأخذَ القطار من برلين إلى بغداد . وأراد العثمانيّون أن يلمّوا أطرافَ إمبراطوريّتِهم المترهلة، فاستعانوا بالألمان، فى مدّ المراحلِ الأساسِ من " الخطّ الحجازيّ "، حتى بلغوا الأردنّ، مروراً بدمشق التى ظلّت تتباهى ب: " المحطة الحجازية " التى ما زالت قائمةً، محتفيةً بجَمالها، وإن لم تَعُدْ ذات قطاراتٍ بعيدة المقصد. لقد دمّر الإنجليز، بمتفجرات لورانس العرب، الخطَّ الحجازيّ . وبالرغم من الثراء الفاحش المتأتى من عائدات النفط، لم تدبّ الحياة فى " خطّ الحجاز "، إلاّ مع عمر الشريف وأوتولى، سينمائيّاً ! * فى أواسط الستينيّات، كان بمقدور المرءِ أن يسافرَ بالقطارات التى مدَّها الفرنسيّون المستعمِرون، من تونس إلى المملكة المغربية، مروراً بالجزائر . أنا سافرتُ بهذا القطار الميمون . اليوم، توقَفَ القطار عند الحدود الجزائرية المغربية، فى نقطة حدوديّة تُدْعى " زوج بِغال " ! * يقول رفيقى العجيب كارل ماركس بلسانٍ ألمانيٍّ مُبِينٍ : Revolutionen sind die Locomotiven der Geschicht. هذه القولة الكريمة تأتى باللسان العربيّ المُبِين : الثوراتُ هى قاطراتُ التاريخ . * فى العام 1963، كنت سجيناً فى " نقرة السلمان "، الحِصْن الصحراويّ الذى شيّده الجنرال جْلوب ( أبو حنَيْك) لصدّ غارات الوهّابيّين، وحبس الوطنيّين . كان الوقتُ عصراً، حين انفتحت البوّابةُ الكبرى، ليتدفّقَ حشدٌ مرهَقٌ من عسكريّين ومدنيّين، تحت حراسةٍ مشدّدةٍ . كان هؤلاء رفاقنا الذين نجَوا، فى شبه معجزةٍ، من " قطار الموت " . كان القطار، عرباتِ شحنٍ، مغلَقةً بإحكامٍ، كى يموت مَن بداخلِها اختناقاً، فى الرِّحلة الطويلة من سجن بغداد إلى السماوةِ، التى تمتدُّ منها باديةُ السماوةِ، التى نكَّبَها المتنبى ذات رِحلةٍ : تركْنا مِن وراءِ العِيسِ نجداً ونَكَّبْنا السماوةَ والعراقا !