محمد وطنى قد لا يبدو استقراء الإستراتيجية الأمريكية الرسمية المعلنة لمواجهة ما بات يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية فى العراق وبلاد الشام "داعش" صعبا، خصوصا مع سعى أجهزة إعلامية أمريكية على نشر هذه الرؤية بشكل مكثف فى إطار سياستها لتدعيم التحالف المشكل لمواجهة "داعش"، والسعى لضم دول جديدة إليه، إلا أن ما يلفت النظر عند متابعة هذه الرسائل الإعلامية الرسمية الأمريكية، هو تأكيد الولاياتالمتحدة وبوضوح على 3 محددات أساسية لهذه الإستراتيجية، لها تأثير كبير على مستقبل شعوب منطقة الشرق الأوسط. أول هذه المحددات هو التزام الولاياتالمتحدة بما وصفه وزير خارجيتها جون كيرى بالبقاء منخرطة بعمق فى المنطقة، وهو ما يشير إلى أن التغلغل «بعمق» فى المنطقة لم يعد مجرد سياسية عامة تخضع فعالياتها وتأثيراتها للتكهنات، بل أصبح إستراتيجية معلنة، بما يترتب على هذا الإعلان من ضرورات تتخذها أمريكا لتنفيذ هذه الإستراتيجية، وثانيها هو اعتماد الولاياتالمتحدة سياسة النفس الطويل فى مواجهة "داعش" بتجفيف مواردها المالية وشل قدراتها الاقتصادية، مع قناعة معلنة أيضا بأنه لا مفر من المواجهة العسكرية التى لا يمكن الاعتماد فيها على الضربات الجوية فقط، كما يقول ديفيد كوهين، وكيل وزارة المالية لشئون الإرهاب والاستخبارات المالية، دون الأخذ فى الاعتبار - على ما يبدو- للأثر الفادح لاتباع مثل هذه السياسة مع تنظيم يقوم فى معظمه على عصابات دموية لا تلقى بالا للحد الأدنى من الالتزامات الدولية فى حالات الحروب، وما يثير الانتباه هو إعلان كوهين أن تهريب النفط يمثل المورد الأول لتمويل "داعش" ومن هنا يجب على أمريكا مواجهته وتدميره، دون مراعاة لكون الثروات النفطية فى المنطقة هى ملك لشعوبها فى الأساس، وربما تعد الأمل الوحيد لبعضها فى إعادة إعمار ما دمرته الحرب الحالية سواء فى العراق أم سوريا أم ليبيا، وهو ما يظهر بجلاء خطورة اتباع هذه السياسة مع داعش، ففى الوقت الذى نجح فيه تكنيك المواجهة الاقتصادية طويلة المدى مع العراق، وأثر كثيرا على إيرانوروسيا، إلا أن هذه الأنظمة فى النهاية دول ذات مؤسسات تدرك أن مصيرها ومصير شعوبها واحد، وهو ما يختلف عن تنظيم مسلح الغالبية العظمى من مقاتليه غرباء عن الأراضى التى يقاتلون عليها. المحدد الثالث هو أن السبب الرئيسى لمواجهة "داعش" هو أن التنظيم بات "يجذب الكثير من المقاتلين الأجانب ويزعزع استقرار منطقة بأسرها، ولذلك فإنه قد يطرح فى نهاية المطاف تهديدًا مباشرًا خارج منطقة الشرق الأوسط، وبالتالى بات "من الواجب مواجهته.، وهذه الرؤية من نص تصريح لكوهين فى لقاء أكتوبر الماضى فى مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى فى واشنطن، ويكشف هذا المحدد أن الولاياتالمتحدة قد لا تستهدف القضاء على التنظيم نهائيا، وإنما قد تكون أولويتها هى شل قدرته على التأثير خارج المنطقة، وبرغم أن هذا الاستنتاج قد يبدو بعيدا عن التصديق فإن قراءة الإستراتيجية الأمريكية فى حربها الأولى على العراق، وما تلاها يعطيه من المصداقية الكثير، وهنا ينبغى أن تعى دول المنطقة المشاركة فى هذا "التحالف" وتوضح أولوياتها الخاصة. فى خطابه أمام المشاركين فى المنتدى السنوى الثالث للسياسات الإستراتيجية التحولية الذى عُقد فى واشنطن فى 17 نوفمبر الماضى، قال جون كيري، وزير الخارجية الأمريكية: أنه يدرك أن البعض يعتقد بأن الضربات الجوية الأمريكية ضد داعش فى سوريا ستساعد "الديكتاتور" بشار الأسد الذى يحكم البلاد منذ زمن طويل بحسب وصفه "لكن تلك الفرضية تستند فى الواقع إلى قراءة خاطئة للواقع السياسى فى سوريا، فنظام الأسد وداعش متكافلان بحكم المنفعة المشتركة. إذ إن داعش كتنظيم يطرح نفسه كبديل وحيد للأسد، فيما يرمى الأسد إلى الادعاء بأنه يمثل آخر خط دفاع ضد داعش، والنتيجة أن الاثنين أصبحا أقوى." القدرة المالية ل"داعش" فى تصريح مهم وكاشف، تحدث ديفيد كوهين، وكيل وزارة المالية لشئون الإرهاب والاستخبارات المالية طبيعة الجهود الأمريكية والدولية المبذولة التى ترمى إلى تقويض القدرة المالية لتنظيم "داعش" تمهيدا للقضاء عليه، كما أكد بعبارات واضحة لا تقبل التأويل أن التنظيم أصبح يمثل تهديدا مباشرا خارج منطقة الشرق الأوسط لذا تتوجب مواجهته، وكأنما السبب الرئيسى لمواجهة التنظيم هو امتداد تأثيره خارج منطقة الشرق الأوسط!! ففى خلال كلمة ألقاها فى 23 أكتوبر الماضى فى مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى فى واشنطن، قال كوهين إنه هو وفريقه فى وزارة المالية يقودان هذه الجهود كجزء من إستراتيجية شاملة لإعاقة التنظيم وإضعاف قدراته، ومن ثم هزيمته فى نهاية المطاف، وأن المجتمع الدولى قد وحّد قواه لإيقاف تهديد التنظيم بسبب ما يقترفه من أعمال الإرهاب والقتل الوحشية، واضطهاده للأقليات الدينية، وسبيه واغتصابه للنساء والفتيات"، وأشار إلى أن "الغالبية العظمى من ضحاياه هم من المسلمين، السنة والشيعة على حد سواء." وأضاف أن تنظيم داعش يجذب الكثير من المقاتلين الأجانب ويزعزع استقرار منطقة بأسرها، ولذلك فإنه قد يطرح فى نهاية المطاف تهديدًا مباشرًا خارج منطقة الشرق الأوسط، وبالتالى بات "من الواجب مواجهته." وأوضح كوهين أن أحد الأسباب التى جعلت تنظيم داعش يحظى باهتمام العالم هو ثروته الكبيرة. حيث يجمع التنظيم عشرات الملايين من الدولارات شهريًا من خلال بيع النفط المسروق، وفرض دفع فدى على ضحايا الخطف، وسرقة وابتزاز الناس الذين يسيطر عليهم حاليًا، وإلى حد أقل تلقيه تبرعات من داعمين له من خارج سورياوالعراق، لذا، وكجزء من إستراتيجية أوسع للحطّ من قدرة التنظيم ودحره- بما فى ذلك الضربات الجوية، ودعم القوات المسلحة العراقية والمعارضة السورية "المعتدلة"، وتقديم المساعدات الإنسانية، ووقف تدفق المقاتلين الأجانب، ومواجهة الخطاب المحرّف للتنظيم - بادرت الولاياتالمتحدة إلى تكثيف جهودها لتقويض القدرة المالية ل "داعش". إستراتيجية ثلاثية وأشار كوهين إلى أن مكتبه فى وزارة المالية الأمريكية، الذى أُنشئ عام 2004 لتطوير ونشر الأدوات المالية لمكافحة تمويل الإرهاب، يستخدم إستراتيجية قوامها ثلاثة عناصر متكاملة هي: قطع مصادر عائدات تنظيم داعش لحرمانه من المال، والحد من قدرة التنظيم على التصرف فى الأموال التى يجمعها من خلال تقييد قدرته على الوصول إلى النظام المالى الدولي، وأخيرا الاستمرار فى فرض عقوبات على كبار قادة التنظيم، وكذلك على الذين يسهلون أموره المالية. وعاد كوهين ليشدد على أن الأدوات المالية وحدها لن تهزم التنظيم؛ إذ ينبغى شنّ حملة عسكرية لطرد تلك الجماعة من الأراضى التى تعمل فيها، وفى نهاية المطاف، فإن الحلول لتسوية النزاعين فى العراقوسوريا يجب أن تكون حلولا سياسية. ويتضح من خلال تصريحات كوهين الذى ينظر إليه باعتباره المسئول الأول عن مواجهة تنظيم داعش اقتصاديا أن إستراتيجية الولاياتالمتحدة فى "محاربة" التنظيم تقوم على ما يمكن اعتباره سياسة طويلة المدى تتمثل فى تجفيف موارد التنظيم المادية، وأهمها – بحسب كوهين – تهريب النفط، وشل قدرته على التصرف فيما هو بحوزته من أموال بالفعل، واستمرار فرض العقوبات على قادته، ويبدو أنه الأسلوب الأمثل – وفق التصور الأمريكى – إذ إنه تقريبا نفس الأسلوب الذى اتبعته الولاياتالمتحدة مع نظام الرئيس العراقى الراحل صدام حسين، وهو ذاته الذى تتبعه حاليا مع النظام الإيرانى فى مواجهة "تهديدات" برنامج إيران النووي، ومع روسيا فى مواجهة "التهديديات الروسية" لأوكرانيا. وهذا الأسلوب الأمريكي، وبرغم نجاحه فى تحقيق أهداف الولاياتالمتحدة وحلفائها إلا أنه يعتمد سياسة النفس الطويل، ويجزم فى النهاية بضرورة شن حرب للقضاء على "العدو"، دون اعتبار كاف للتكاليف الهائلة لاتباع مثل هذه السياسة مع تنظيم يصفه الكثيرون بالدموي. نجاح القوات الكردية وفى 27 يناير الماضي، قال الأدميرال جون كيربي، السكرتير الصحفى لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون): إن نجاح القوات الكردية التى تقاتل عناصر تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام الإرهابى (داعش) فى بلدة كوبانى السورية هى خير مثال على ما يمكن القيام به عندما يتوافر الشريك الذى يمكن الاعتماد عليه، وتكون لديه الرغبة والقدرة، وأضاف: "أعتقد أن الضربات الجوية ساعدت كثيرًا. وأن توفر الشريك الذى يمكن الاعتماد عليه على أرض الواقع ساعدنا على توجيه تلك الضربات وتصويبها نحو الأهداف". وأشار كيربى إلى دور "الحليف" التركى قائلا: "كانت اللحظة التى سمحت فيها الحكومة التركية بمرور الإمدادات إلى القوات الكردية فى الداخل عبر أراضيها لحظة مهمة – ذلك أنها سمحت بمرور التموين والموارد الإضافية والقوات المقاتلة إلى داخل كوباني"، إلا أنه استدرك قائلا: "إن كل حالة ستكون مختلفة، وإن كوبانى ليست الموصل، بأىة حال من الأحوال، من حيث نطاق وحجم وتعقيد المهمة، وسوف تكون هناك فى نهاية المطاف معركة من أجل استعادة السيطرة على الموصل، ونحن نعمل عن كثب مع قوات الأمن العراقية لمساعدتها على فهم أفضل للتحديات فيما يتعلق بنوع المعركة التى يجب خوضها فى الموصل، والتأكد من أن هذا سيكون جزءًا من مهمة التدريب والمشورة والمساعدة، للتأكد من أنهم يتمتعون – بقدر الإمكان- بالقدرة اللازمة فى ميدان القتال." حرب دولية وليست أمريكية وعاد كيربى ليؤكد أهمية دور حلفاء أمريكا فى الحرب ضد داعش فى مؤتمر صحفى عقده فى مبنى البنتاجون فى 3 فبراير الماضي، حيث قال: "إن المعركة التى يجرى خوضها ضد ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام ليست حربًا أمريكية، وإنما تشكل جهدًا دوليًا واسع النطاق يهدف إلى هزيمة إيديولوجية همجية مجنونة ومقيتة، والأمر سيستغرق بعض الوقت لكى نتمكن من مجابهة هذه الأيديولوجية البغيضة، ولن نتمكن من تحقيق ذلك من خلال عمليات القصف والغارات الجوية. إلا أن هذا لا يعنى أن عمليات القصف والغارات الجوية سوف تتوقف، بل إنها ستتواصل". وأشار كيربى إلى أن ضربات التحالف قد استهدفت ضرب "النفط" الذى وصفه بالمصدر الرئيسى لدخل التنظيم، الذى أصبح الآن فى وضعية الدفاع عن النفس. ومضى موضحًا، "هذه مجموعة مختلفة عما كانت عليه قبل سبعة أشهر، وأنا لا أقول إنهم لم يعودوا يشكلون خطرًا. ولا أقول إنهم لم يعودوا همجيين، إنما أصبحوا مختلفين. أصبح طبعهم وسلوكهم وتصرفهم مختلفًا. وهذه إشارة إلى التقدم الذى نحرزه."