فى شهر رمضان يحلو لى منذ سنوات وفى مراحل متتالية من حياتى أن أخلو إلى نفسى، فأشرد مع ذكرياتى، وأسترجع ما مررت به، فى كل مرحلة من مراحل حياتى، من إحباط وفشل، ثم نجاح وتحقق، ثم أمراض وآلام وأفراح. أفكر وأتأمل وألجأ إلى الله خالق المتعة والشقاء، كم ساندنى وكم وهبنى القوة لأتغلب، بها على عقبات ومشكلات الحياة. أخلو إليه، أخاطبه بكل أسلوب يصلنى به، مستحضرة أصول التطهر والتقوى، والخبرات التى عشتها بين يدى أولياء الله من المتصوفة، وعلى رأسهم أستاذى وشيخى المفضل الراحل الدكتور عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر الأسبق 1910 1978م، وأنا معه فى شهر رمضان على سلم الكعبة وداخلها، وفى مسجد الرسول، وفى الروضة نبتهل ونتوسل ونبكى ما شاء لنا البكاء، وتطول الخلوة ثم أقضى بقية شهر رمضان فى منزل الشيخ محمد متولى الشعراوى، 15 من ربيع الأول 1329ه من إبريل 1911م 22 من صفر 1419 ه، 17 من يونيو 1998م المواجه للكعبة، حيث الابتهال والعبادة فى صور عديدة، وليالى الذكر والتراتيل والابتهالات ودموع غزيرة تذرفها إلى جوارى الشيخة زينب الغزالى، صاحبة المقولة «الله فوق كل فرعون». ثم أنتهى إلى لون آخر من العبادات الروحية فوق جبال الطائف، حيث يقيم صديق عظيم الإيمان، هو الشيخ أحمد زكى اليمانى، وزير البترول والثروة المعدنية السعودى سابقا، من عام 1962م، إلى 1986م، وأحد أقطاب البترول فى العالم. إنها قمة الهداء وترتفع على سطح البحر بنحو 2000 متر، وتبعد عن الطائف نحو 20 كيلو مترا، وهى أعلى بقعة فى جبال الطائف، حيث صوت القرآن يتردد بصوت، فيه شجن وعذوبة بين الجنبات، وخليط من أجناس العالم، كلهم مدعوون إلى العبادة والتوسل فى هذا المكان الرائع، الذى يرتفع حتى السماء، حيث الله، وصلاة التراويح ثم صلاة التهجد حتى طلوع الفجر. وأعود إلى أرض واقعى، لأكمل أيام شهر رمضان فى منزلنا بالإسكندرية، قريبا من البحر، حيث قضيت طفولة عامرة بالدين والتهجد والتوسلات بمسجدى أبى العباس المرسى 616 ه 1219م/ 685 ه 1281م، والأباصيرى كما يناديه أهل الإسكندرية أو البوصيرى 608 696 ه، 1213م 1295م كما هو معروف للجميع فى العالم، تمد الخطى جريا للحاق بصلاة التراويح ثم الفجر ونستمع فى خشوع إلى تلاوة الشيخ مصطفى إسماعيل 7 من يونيو 1905م، 26 من ديسمبر 1978م وطه الفشنى 1900 1971م ودروس العبادات. وفى أواخر الشهر، أعود إلى أرض أخرى للواقع، حيث ألتقى صديقى مصطفى محمود 27 من ديسمبر 1921م 31 من أكتوبر 2009م ولونا آخر من ألوان العبادة، والتبحر فى فك ألغاز الدين. وفى الحديث القدسى وأظنه حديثا موضوعا يقول رب العزة:«عبدى أطعنى، تكن ربانيا، تقول للشىء كن فيكون»، وهذا معناه أن التسابيح والصوم لفترات طويلة والاجتهاد فى العبادة والاعتكاف وترديد اسم من أسماء الله الحسنى يمكن أن تصل بصاحبها إلى مرحلة الكرامات ومعرفة الهمم. وذات مرة، جلس الشيخ على المعصرانى وهو كاتب ليبى، مع رفاقه فى حلقتهم الدراسية بصحن الأزهر، واحتدم النقاش فى موضوع حول ابن رشد 520 595 ه/ 1198 1126م، فى ابن الهيثم 354 430 ه/ 965 1040م وفجأة وضع الشيخ المعصرانى يده على رأسه قائلا:«يا أبتاه»، وتبين أن والده مات فى اللحظة نفسها بطرابلس، وقد نسمع أن ما تهب مذعورة لأنها أحست أن ابنها فى خطر بينما تكون فى بلد، وهو فى بلد آخر، ويتضح أنه فى تلك الأثناء كان فى غرفة العمليات تجرى له جراحة. وقد خبرت شخصيا مقولة (عبدى أطعنى، تكن ربانيا، تقول للشىء كن فيكون)، ولكنى أخشى كثيرا ترديد ما حدث وأحد العارفين يقول لا يصح أن نقف فى علمنا عند حد حتى لا يجد الإنسان نفسه عاجزا عن فهم أبعاد قضية ما مثل مسألة الله سبحانه وتعالى، ومسألة الآخرة، وما بعد الموت، ولماذا يعذبنا الله؟ وما سر الدموع مادامنا سنموت وآخرتنا عدم؟ كل هذه الأسئلة لا يستطيع العقل الإجابة عنها، ولا بد أن يستسلم حتى يصل إلى المرحلة الثالثة مرحلة البصيرة والإلهام، وهى التى يشترك فيها بيتهوفن والفنانون العظام مع الناس الطيبين أصحاب البصيرة. وبعد البصيرة يأتى الإلهام، وهو مرحلة لا يصل إليها إلا أهل الصلة بالله، وهؤلاء يسمون بأصحاب المعرفة اللدنية للعلم اليقينى، الذى يأتى للأنبياء على طبق من فضة، وهذا ليس علما بل معرفة، وهى أعلى درجة من العلم، والمعرفة اللدنية هى أرفع أنواع المعارف، وأسمى درجاتها، وهذه يختص بها الله الأنبياء، وتصل إليهم منه سبحانه مباشرة وهى أعلى درجات اليقين، ويتم بها الإدراك الكلى.