شرح فى بعض مقدماته منهجه فى الفنون التى تفصح عن عقل منظم كان ينزعج إذا تولى أحد المنشغلين بالأدب منصبا سياسيا
عقدت دار الكتب والوثائق القومية ندوة بعنوان «تراثك أمانة»، دعت فيها كل من لديه مقتنيات تراثية، يخشى عليها من عوادى الزمن أن يهديها إلى الدار فى مبناها الرئيسى على كورنيش النيل، على أن يدون اسمه فى سجلات الدار، ويتسلم شهادة تقدير على هديته. ومن المؤكد أن دار الكتب ستتلقى ما لا يحصى من الرسائل الشخصية والكتب القديمة والوثائق وغيرها مما له قيمة تاريخية تتصل بمصالح المجتمع والكتابة العربية وما شاكلها، كان يمكن أن تتهرأ وتضيع وتندثر إن لم تحفظ فى دار الوثائق القومية. وقبل أيام قليلة من عقد هذه الندوة فى مقرها القديم بباب الخلق، كان قد صدر للدكتور حسين نصار عن دار الكتب عقب رحيله فى أول ديسمبر الماضى كتاب «إحياء التراث»، عرض فيه لمجموعة من القضايا الخاصة بهذا الإحياء، كان قد ألقاها كمحاضرات أو نشرت فى الدوريات الصحفية فى مصر وبعض الأقطار العربية. ومع هذا الكتاب أصدرت الدار أيضا لحسين نصار سيرته الذاتية «التحدث بنعمة الله»، مستعيرا هذا العنوان حرفيا من كتاب للسيوطى فى القرن التاسع، تناول فيه العلامة العربى سيرته العلمية التى خضعت، كما خضعت سيرة حسين نصار لعطايا علام الغيوب. ولا شك أن قراءة سيرة حسين نصار تلقى الضوء على جهوده وأفكاره التى قدمها فى كتابه «إحياء التراث». ويلفت النظر فى الكتابين، وفى كل إنتاج حسين نصار، ابتعاده التام عن السياسة والأحزاب، حتى لا يصرفه شىء عن رسالته الثقافية التى يكرس حياته لها. ومن يرد أن يعرف حسين نصار معرفة حقيقية شاملة، عليه أن يرجع إلى ما كتبه عن طه حسين من إشادة بشخصيته وثقافته وأخلاقه وذوقه الأدبى وموقفه من التراث العربى والآداب الأجنبية القديمة والحديثة فى كتابيه: «دراسات حول طه حسين» 1981، و«طه حسين تطورات ومواقف» 2013، لأن ما جاء فيهما من أوصاف لطه حسين يكاد ينطبق بحذافيره عليه. ومع هذا فما أكبر الفرق بين الأستاذ عميد الأدب العربى، الذى لا يضارعه أحد فى رياداته، وأحد تلاميذه الذين يأخذون مأخذه الجاد فى الدراسة والنقد، لكنهم لا يملكون عضده وجرأته وصراحته فى إبداء الرأى الذى يدين الحاضر فى أبعاده وتجلياته المختلفة، ويتطلع لمستقبل زاهر لمصر وللإنسانية. ويذكر عن حسين نصار من المقربين له، أنه عندما كان يسمع أن أحد المشتغلين بالآداب والتراث الإنسانى شغل منصبا سياسيا، أو انضم إلى حزب، أو ارتبط بالسلطة، كان ينزعج جدا، ويبدى مضضه خوفا عليه من انصرافه عن إنتاجه، وفقد ما يحتاج إليه من حرية وتفرغ وبرد الطمأنينة. لم يكن يقبل قط أن يجيد الباحث أو المبدع عن طريقه، وأن يرتدى غير ثيابه الأصلية، إيمان منه بأن هذا هو الطريق الوحيد للتغيير، وتقدم الأمم. وحسين نصار 1925 - 2017، ككل الذين مارسوا التأليف والتحقيق والترجمة، يشرح فى بعض مقدماته، منهجه فى هذه الفنون التى تفصح عن عقل منظم يجيد التمييز، ويحسن الاختيار. غير أنه كان يعتبر أن المحققين دون غيرهم من المشتغلين بالكتابة، لم ينالوا ما يستحقونه من الاهتمام والعائد المالى الملائم لدورهم الذى لا يُجْحَد فى النهضة الفكرية وبناء الدولة. ولهذا كان يحرص فى حياته على إذاعة أخبارهم وآثارهم، ورد الاعتبار لهم. وتعد أعمال حسين نصار فى هذا الفرع المعرفى مرجعا لا غنى عنه للباحثين بما تتضمنه من تعريف واف بالمحققين، ومن مفارقات ومشابهات فى تحقيقاتهم، ومن مقابلات ومفاضلات بينها، لم يسبقه فيه، ويتفوق عليه غير المحقق عبد السلام هارون 1909 - 1988، الذى صدر له فى 1954 كتاب «تحقيق النصوص ونشرها». وأعيد طبعه حتى 1999 سبع طبعات. واهتمام حسين نصار بالسند فى النصوص لا يقل عن اهتمامه بمتنها، وذلك بعد الرجوع إلى النسخ المتعددة المخطوطة والمطبوعة، مشيرا إلى مظانها فى المكتبات وخزائن الكتب، سواء كانت قديمة أو حديثة، إذ لكل منها مزاياها، حتى يتمكن المحقق من الاحتفاظ بالصورة الأصلية للمؤلف، كما وضعها ودفع بها إلى الوراقين والناشرين. وعلى المحققين للنصوص المتنازع حولها، أو التى تحيط بها علامات الاستفهام، أن يكتفوا بالتنبيه بذلك، دون بت يغلق الباب، إلى أن يأتى من يستطيع حسم الخلاف بالحجة الدامغة التى لم تتوفر لأحد من قبلهم. أما إذا تدخل المحقق فيما بين يديه، ولم يكتف بالإشارة إلى ملاحظاته فى الهامش، أو إجمالا فى المقدمة، فإنه يخلع على نفسه صفة المؤلف، ويطمس النص، وهذا خطأ فادح، وانتحال مشين لما ليس له، وعليه أن يبقى النص كما هو، لا يصححه إلا بإذن مؤلفه، ولو وجدت فيه غلطات، لأنها تكشف عن مستوى ثقافة صاحبه، وعن مستوى الوسط الذى ينتمى إليه، والطبقة التى نشأ فيها، ومن ثم لا يصبح الحكم عليه إذا تدخل دقيقا، ولا يكون الحكم على البيئة والعصر مطابقا للحقيقة. وبذلك يعود حسين نصار إلى المعنى اللغوى للتحقيق، معنى إحكام الشىء وتيقنه. ومن طول معاشرة حسين نصار للتراث العربى والأجنبى، كان يملك من الحس والبصيرة والفطنة ما يستشف به من المخطوط تاريخ وضعه، وطريقة المؤلف فى القراءة وجمع المادة، مستعينا فى هذا كله بالتعليقات والاستطرادات والزلات وغيرها، التى ترد فيه. ولأن التراث لم يعرف الترقيم، فكل ما يتاح للمحقق - إذا خلا النص منه - أن يحدد الفواصل بين الفقرات، ويطبق قواعد الابتداء والوقف وغيرها، كوصف تشكيل الكلمات، لكى يسهل على المتلقى فهم النص. ولأهمية الترقيم فى ضبط المعنى، كان الكاتب الروسى تشيكوف يقضى الساعات الطويلة من الليل فى التفكير فى وضع علامة الفصلة أو النقطة بين الجملتين، أو إلغائها. ومثل هذا التنسيق يحتاج دائما من المحقق الثقافة العريضة، وإلى أن يكون عليما بأنواع الخطوط وموضوعها، وألا تقتصر معارفه على تخصصه، وإنما تتسع لكل المعارف التى لا حد لها. ويتطرق حسين نصار فى كتابه «إحياء التراث»، إلى عادات المحققين فى التنقيب عن الكتب، وفى اقتنائها، وفى تدوين مادتهم على الجزازات أو الكراريس، وذكر لأعمالهم الكاملة، وليس فقط ما يحققونه، ولو كانت هذه الأعمال مقالات صحفية دعت إلى كتابتها مناسبات عابرة، أو مجرد تقديم لكتاب، أو مراجعة لآخر. وعلى الرغم من سلامة المناهج التىي طبقها بعض المحققين، فإن مآخذ حسين نصار عليها تبدو غالبا أكثر صحة، بفضل وعيه الذى يحميه من أن يكون عبدا للتراث، مسلوب الإرادة حياله. نذكر هنا ما يقوله المحقق والناقد اللبنانى الكبير إحسان عباس، من أن وظيفة المحقق تتمثل فى إقامة نص سليم، بينما يرى حسين نصار أن وظيفة المحقق لا تعدو أن تكون رد النص إلى أصله، حتى لو كان هذا الأصل غير سليم. كما أن المحقق ليس من حقه أن يغير حرفا واحدا من المخطوط، فإنه ليس من حقه كذلك أن يكون ناقدا له، إذا كان النص مجافيا للواقع. وحسين نصار مع تبسيط التراث واختصاره، لكن فى حالة الإجماع على أن فى التراث ما يفتقد كل قيمة، فإن مكانه يكون متاحف التاريخ.