تغرب الشمس على ستيفن وكانتون، فتضئ أنوار المحطة ويصفق الناس، لا يفهم ستيفن هذا؛ فتوضح كانتون أن الناس يعتبرون المساء أفضل فترات اليوم، لأن الناس ينهون أعمالهم بالنهار ويتفرغون لحياتهم الخاصة بالليل، أما السيد ستيفن فلا يملك تلك الحياة الخاصة، فحياته كلها عمل من الصباح حتى المساء ولا يملك ما يدعونه "بقايا اليوم". ما المهم فى رواية "بقايا اليوم" لكازو إيشيجورا لتقدم للسينما؟ مايك نيكولز، إسماعيل ميرتشانت، جون كالي، ثلاثة منتجين لا يضعون حساب المكاسب المادية فى أعينهم فى الغالب وكلهم لهم نصيب من إنتاج الأفلام المقتبسة عن رواية، فإذا أخرجنا عنصر المكاسب المادية من مقياسنا فما العناصر الفنية المثيرة فى رواية "بقايا اليوم" لتنتج للسينما؟ أولاً: واجهة العرض إن محور التعاطف في الرواية هنا ليس لصالح البطل "ستيفن" وإنما لكانتون والإبداع هنا ان الرواية كلها تسرد بوجهة نظر ستيفن للحياة، فالرواية تجعلك تندمج مع شخصية تكرهها، ومع ذلك تدخل كيانها وتعلم محركاتها وقيمها التي تدفعها لأفعالها، ستيفن ليس موهوباً فى تحليل الأفكار ولا يطلق العنان لعواطفه، القيمة العليا للشخصية هي ما يسميه الكرامة، والكرامة لا تتأتى إلا عبر العمل الجاد، وربما لا يضعنا هذا فى تعاطف مع الشخصية، لكنه يبرر لنا أفعالها ويضعنا فى صراع مع ذواتنا التي ليست ببعيدة عن الوقوع فى خطأ تلك الشخصية. ثانياً: التوثيق السياسى قدم الفيلم تحليلاً للمجتمع البريطانى الذى أوقع نفسه فى الحربين العالمية الأولى والثانية وقد عرض فئتين: فئة النبلاء وفئة الخدم، وجسد الفيلم مشهد لستيفن (رئيس الخدم) وهو يقف ليختبره أحد الساسة البريطانيين، ويسأله عن آرائه فى تحركات بريطانيا العظمى، وكانت إجابات ستيفن أنه ليس على علم بشيء عن هذا، ورأى أن أباه - وهو الرمز الذى يقتدي به - "رغم معلوماته المحدودة وعدم إجادته للغة الإنجليزية إلا أنه كان يعرف كل شيء عن إدارة القصر" فتلك الفئة لا يمكن أن تضع بريطانيا زمام الأمور فى يدها. على المستوى الآخر كان السيد دارلنجتون (سيد القصر) على قراءاته المتعددة وهيبته؛ الأبعد عن تحرى الرشد فى قراراته ومحركه لإدارة السياسات الخارجية تصنع بسجية وعفوية معزةً لصديقه الألمانى المفلس وإعجابه بالحسناء الألمانية. ثالثاً: الحكمة الإنسانية بعض المواقف التى تتخذها الرواية دون أن تلقى لها بالا قد تضر بحياة أشخاص أعزاء أو بمصلحة بلد! فلو أن ستيفن أفصح عن مشاعره لكانتون لما عاشت حياة التعاسة والوحدة ولو أن دارلنجتون أنصف في الأمور السياسية لما مات ابنه بالعماد فى الحرب. علاقة الفيلم بالرواية؟ رغم أن الرواية غير متصاعدة وأحداثها بسيطة وموحدة المكان تقريباً إلا أن روث براور جابالا استطاعت تطويرها فى كيان سينمائي قوي دون الإخلال بعناصر الرواية، وكانت إضافات السيناريو فى محلها وغير متصنعة ففضلاً عن تغيير بعض الأسماء لتناسب العصر كان أيضاً من الأفضل وضع مشهد ذروة (مصارحة كينتون بالزواج من بين لستيفن) متأخراً قليلاً عن موضعه فى الرواية وفكرة تغير المشهد من لحظة عصبية وتلميح حوارى فى الرواية إلى لحظة ضعف وانكسار لكينتون نفهم معناها عبر النظرات فقط كان له أفضلية عن النقل الحرفي وشحن مشاعر تعاطف أكبر. بداية الفيلم تاتي من خلال هروب اثنين من الخدم للزواج واستبدالهما بآخرين، رغم أن التفصيلة استمدت من الرواية ليست بعيدة عنها إلا أنها ترميز ذكى له علاقة بالخط الدرامي العام، وكانت الرمزية التي أضافها السيناريو فى النهاية أجمل وأبهى حيث دخلت حمامة فى مدخنة قصر دارلنجتون وقام ستيفن بإخرجها من النافذة فهذا المشهد قام بتلخيص الفيلم كله، حيث كانتون المحبة للحرية لا مكان لها لتطير وتحلق وسط جدران هذا القصر. التجسيد البصري هناك فارق كبير بين مخرج يقدم رؤية بصرية تخصه ومخرج يقدم رواية شهيرة سبق قراءتها والمخرج جيمس إيفوري له تاريخ حافل بتقديم اقتباسات لرواية تقدم حقبة زمنية بذاتها، كما أنه يميل إلى الروايات الشخصية أكثر من الملحمية، ولم يلجأ أبداً للأسلوب العاطفى الفج والإسراف فى الكادرات المكبرة فى تقديم نص يعبر عن الشخصية، كما جرت العادة فى نوعيات تلك الأفلام، حيث يعتمد المخرج فيها اعتماداً كلياً على الممثل، جيمس إيفوري قدم نموذجاً بصرياً له أبعاد عدة دون فجاجة أو سطحية، فمنذ اللحظة الأولى تكتب العناوين على صور لقصر دارلنجتون هندسية للغاية وذات بعدين فقط دون عمق! السطحية هو ما كانت تعنيه تلك اللوحة وما يؤكد ذلك إنه فى حاله اللقطات المتبادلة بين ستيفن وكانتون حينما تكون كانتون على حق فى أمرها فى شيء ما عن والد ستيفن نجد أن كادر كانتون يحمل عمقاً وكادر ستيفن سطحى الخلفية ولا يحتاج الأمر إلى شرح فالصورة هنا تعبر عن فكر كليهما وطبيعته بين العمق والسطحية. أما الاعتماد الكلى على الممثل فقد ابتعد المخرج عن هذا تماماً – رغم عبقرية طاقم التمثيل - حيث جسد مشهد بكاء كانتون حسرة على الأرض دون أن نرى وجه ستيفن وفقط عبر نبرات صوته فهمنا ما يكنه قلبه وراء كلمات باردة عن نظافة طاولة الغذاء وهي ليس لها علاقة بالموقف فالتكوين الواحد دون التنقل هنا قلل من ارتباك المشهد بل قواه بدلاً من التدرج فى شكل عاطفى مصطنع. المونتاج المونتير أندرو ماركوس كان ضمن الفريق العريض للمخرج ونستطيع أن نقول إن نقلات الفيلم هى نقلات المخرج وأن المونتير لم يكن لديه مساحة كبيرة من الإبداع، ففيلم حوارى لا يعتمد على الحركة إطلاقاً قد يؤدى الى إيقاع ميت خاصةً أن المخرج ابتعد عن خيار حركة الممثلين داخل الكادر حيث يجعل الفيلم يبدو متكلفاً ومسرحياً ومع ذلك نرى أن الإيقاع العام للفيلم متوازن وقد تكون الكادرات لافتة السرعة بالنسبة لتلك النوعية من الأفلام (أفلام الحقبة الزمنية البريطانية دائماً ما تعتمد على قطاعات بطيئة للغاية حتى فى المسلسلات) لكن توازن السرعة شيء مألوف لدى المخرج، واستعمال نوعيات مختلفة من القطاعات مثل المزج بين خط الزمن الحديث ل ستيفن وخط الارتجاع واستعماله المزج أيضاً فى المونتاج المتتالي (الذي يعرض أحداثا متتالية فى نفس السياق) لأعمال النظافة المصاحبة لخطة رئيس الخدم للعمال وقطع بالمزج يعنى مرور فترة زمنية طويلة بين اللقطتين واستعماله بشكل فني أوحى بسلاسة كبيرة تُفضل عن استخدام القطع الحاد بين تلك النوعية من اللقطات و المزج هو شيء أوروبي بحت وكذلك التكبير داخل الكادرات والذى استعمل فى الفيلم أيضاً وهذه العناصر نادرة الاستعمال تماماً فى سينما هوليوود. الديكور والملابس عادة ما يتجه الديكور فى أعمال الحقبة التاريخية إلى الإسراف والتكلف بهذا النظر على معنى الديكور وملاءمته لطبيعة الشخصية المادية والاجتماعية والنفسية، لكن فى حالتنا هذه تضمنت الرواية وصفاً كاملاً للقصر ولم يبخل الكاتب فى وصف الأماكن الثانوية لذا ما كان على مصمم الديكور إلا اتباع الصورة الروائية المرسومة لكنه أضاف إبداعه الخاص عبر الألوان التى تحمل رمزيات متعددة والملابس اختيرت على حسب طبيعة الشخصية وقد راعى الألوان فى اختياراته رغم الميل العام الى الألوان الغامقة إلا أن أبعاد شخصية عن أخرى وتطور الشخصية مرسوم بشكل يسهل إدراكه. ولم يستخدم المخرج الموسيقى كعنصر داعم فقط بل كعنصر سرد فقبل مشهد قدوم رئيس الوزراء لقصر دارلنجتون سمعنا موسيقى وترية تضعنا كمشاهدين فى تشويق للحدث القادم وتنبئ بتوتره وأهميته.