كما ينسلخ بياض النهار من سواد الليل، يولد السرد الأول لأى شاعر من رحم القصيدة، حاملا سماتها وقسماتها وجيناتها الجمالية، إذ يأتى على شاكلتها محتفيا باللغة، غارقا حتى أذنيه فى الصور المدهشة، والمفارقات الأخاذة، والخيال الجامح، ويحرص، طيلة الوقت، على لململة الحكاية التى تريد أن تتمطى بطولها الفارع، حتى يتمكن من حبسها فى قارورة من زجاج شفاف سميك، فتنكمش، وتتكثف، وتتعتق، لكنها برغم رخاوة المكان الذى تستقر فيه، لا تكف عن محاولة الإفلات إلى البراح. هكذا تهيأت لى رواية «ابن القبطية» للشاعر والكاتب المسرحى وليد علاء الدين فور انتهائى من قراءتها، قابضا، ليس فقط على لغتها المنحوتة بعناية، لكن أيضا على فكرتها اللافتة، التى انسابت بين السطور طيعة، تذهب أحيانا وسط بعض التفاصيل، التى كان لا بد من التساوق معها أو مجاراتها فى عمل سردي، لكنها لا تضيع.
ليس جديدا أن تدعو رواية لمصالحة بين الأديان الإبراهيمية، أو بين أتباع العقائد كافة، فى زمن تصاعد فيه النداء إلى حوار وتفاهم وتسامح بين المتشاحنين باسم السماء. وليس جديدا أن تدعو رواية إلى تجاوز حمولات التاريخ، والخروج من كهفه، وكسر جمود الأيديولوجيات، وتفادى ما يفرضه التعصب الدينى على المستسلمين له من ممارسات تنطق بالفتنة والكراهية والدم. لكن الجديد فى هذه الرواية هو صياغة الفكرة التى تعبر عن تلاقى الأديان الإبراهيمية بهذه الطريقة، والتى لا تتهادى بسهولة لمن يطالع أول الرواية، فيظن أنه داخل إلى أرض سردية ليس فيها سوى مريض نفسى يبوح بأوجاعه وخيالاته وهلاوسه السمعية والبصرية. أو من يقفز ويقرأ آخر الرواية، فيعتقد أنه بصدد مطالعة مجموعة من القصص القصيرة كتبها بطل الرواية نفسه، أو بالأحرى مؤلفها. إما من يقف بين هذين الحدين، ويمضى على مهل فى سطور الرواية سيقبض على الحكاية الرئيسية، التى ينطق ويستنطق بها البطل، وكذلك كل الذين حوله من شخصيات محددة وهى حبيبته وأمه وأبوه وجاره ورفاق عابرون وفتاة أخرى لا يمتد وجودها طويلا فى زمن الرواية لكنها هى التى تمنحها المعنى التى تصبو إليه.
بطل الرواية «يوسف» وللأسم دلالة قوية هنا وهو شاب موزع بين أوتار الموسيقى، وحركات الرقص الصوفي، ولحظات للتأمل والشرود، وأخرى للاكتئاب والانقباض. وهو ابن لرجل مسلم وامرأة مسيحية تزوجا بعد قصة حب، ودامت العشرة الطيبة بينهما مفعمة بالود والتفاهم. لكن «يوسف» لا يقف عند هذا الحد، بل ينجذب إلى فتاة يهودية فاتنة تسمى «راحيل» تغويه على مهل كى يهبها من صلبه بنتا يمثل وجودها فى الحياة ردا على كل هذه المشاحنات الاجتماعية، والصراعات التاريخية حول العقيدة والهوية والأرض والزمن، وفى محاولة لجمع الأديان الإبراهيمية ليس في، المدن والقرى، إنما فى أرحام النساء. وهنا تقول له بعد أن التقاه فى أحد فنادق «شرم الشيخ»: «أريد لرحمى الموسوي، أن يستقبل طفلة من نطفة تشكلت من صلب محمدي، فى رحم مريمي». لكن الرواية لم تظهر أن يوسف قد استجاب لهذا النداء طواعية، فهو فى النهاية كشاب يجمع بين الإسلام والمسيحية، ليس فى عقيدته على ما بدا من التفاصيل إنما فى أصوله محمل بكل آثار الصراعات المحتدمة، بدءا من اتهام اليهود بصلب المسيح، حسب اعتقاد المسيحيين، وانتهاء بظهور الصهيونية وقيام الصراع العربى الإسرائيلي، مرورا بالمرويات التاريخية عما فعله اليهود بالنبى محمد عليه الصلاة والسلام بعد هجرته إلى «يثرب». ولذا جعله الكاتب يستجيب لنداء «راحيل» وهو غير واع، بعد أن أسقته خمرا سماوى اللون معتقا كانت تطلق عليه «مشروب العظماء»، وتقول له: «لن تنسى مذاقه أو إحساسه»، ثم أغرته بالمال فقالت له: «سوف تحصل على مبلغ يجعلك ثريا للبقية الباقية من عمرك، وربما يمتد بظله على أولادك من بعدك، فهم دائما سيكونون أشقاء طفلتي»، يزيد على ذلك قدرتها العجيبة على التفاوض، حيث صبرت على رفضه طويلا دون أن تكف عن ملاحقته وتفتح أمامه خيارات عدة بدهاء شديد: «اعتبره حلما، غلطة، نزوة .. أو صفقة، لك الخيار».
لكن كان هناك أيضا ما ساعد فى رضوخه، ألا هى قصة حب مجهضة جمعته سنوات بجارته «أمل» التى تزوجت من جارهم الثرى «منصور»، والذى بدوره لم يرد من هذا الزواج سوى إذلال يوسف، وإمعانا فى هذا ألقاه فى طريق «راحيل» حين سهل له العمل فى الفندق، وهو يعلم كل شيء.
وبرغم كل هذا لم يشأ الكاتب أن يجعل «يوسف» حرا فى اختياره هذا، ففضلا عن عوزه المادى وإحباطاته المتوالية، التى يحاول أن يتجاوزها بالعزف على العود والرقص الصوفى على درب المولوية، فإنه يعانى من الإصابة بحالة متقدمة من الفصام، نقرأ تقريرا بشأنه فى مطلع الرواية ممهورا باسم استشارى فى الطب النفسي. وينصحه الطبيب، بعد أن يأتى على ذكر ما يعانيه من هلاوس وأوهام، أن يكتب كى يشفى، فيستجيب للنصيحة، لنقرأ فى نهاية الرواية ما يشبه القصص القصيرة تحت عنوان «من كراسة يوسف الزرقاء». أما الحكاية الأساسية، التى يختلط علينا ما إذا كان كاتبها مؤلف الرواية أم بطلها، فقد لا يُعوَّل عليها لأن الطبيب يصف، فى تقريره، كتابة البطل أو حكاياته بأنها «بدت غريبة فى لغتها وأفكارها»، بل يقول «لم أتمكن من التفرقة بين الحقيقى منها والمتخيل»، وهو قول لا يبعد كثيرا عما أراد المؤلف نفسه أن يقوله، إما حذرا، أو لأنه يدرك أن ما يجرى فى سطور روايته بعيد المنال.