كنا نتحدث عن شعراء وكتاب, عن أصدقاء قدامي بدأوا الطريق معنا, فيما مضي, ثم تخلفوا واختفي أثرهم, وبين الحين والآخر, كنا نطلق اسما في الهواء من لايزال يتذكر فلانا؟ وكنا نهز رءوسنا وترتسم علي شفاهنا ابتسامة خفيفة مبهمة. هذه الكلمات تكاد تكون هي ما نتبادله, نحن الذين تقدمت بهم الأيام, حين اجتماعنا ليلا حول شيء او آخر, إلا أنها ليست من عندي, بل هي السطور الأولي من قصة قصيرة لعلها الأجمل بين ما قرأت خلال سنوات طويلة من القصص.. سوف أوجز لك حكايتها الجميلة المدهشة, رغم ما تتعرض له القصص من غبن حين اختزالها, لكنني قبل ذلك أود أن أحدثك قليلا عن كاتبها الذي لم أكن عرفت به من قبل, ولا عرفت أحدا يعرفه. الكاتب هو ديسزو كوستلاني المولود عام 1885 في إحدي مقاطعات الإمبراطورية النمساوية المجرية القديمة, وقد حقق شهرة مبكرة, وعبر مسيرته التي انتهت برحيله في عام 1936 بالعاصمة المجرية بودابست, كتب الشعر والرواية والقصة القصيرة والمقال, كما انه كان صادق توماس مان وترجم ل شكسبير و ريلكه و بودلير وفاليري وغيرهم. كوستلاني هذا عاش متوحدا, لا يؤمن بالتقدم ولا التاريخ: الانسانية كما تثبت الادلة قادها الي الخراب والدم والقذارة اولئك الذين تحمسوا للقضايا العامة.. في حين كان عظماؤها هم اولئك الذين لم يهتموا إلا بأمورهم الخاصة, اللامبالون النوامون, وهو بسبب من افكاره تلك عاني من النفور الذي بات يكنه نحوه كثير من الكتاب, وقد احزنه ذلك, هو من يظن ان الحياة تنظم امورها دائما بطريقة او اخري: شرط ألا ينشغل المرء بها. لهذا السبب او لغيره ابتكر منذ عام 1925 شخصية قصصية يختبئ وراءها, تحمل اسم كورنيل إيستي جعل منها الشخصية الرئيسية لحوالي اربعين قصة علي مدي السنوات العشر الأخيرة من عمره, وهو في كل قصة رجل مختلف, قد يكون احد رجال المجتمع, او كاتبا شهيرا, او جائعا او انانيا او رقيقا طيبا, الا انه في كل الاحوال هو المتوحد, منبت الجذور, الضيف, عابر السبيل الابدي, الذي بلا مأوي ولا ارتباطات, انه فوق الاعراف والهموم اليومية, إلا ان التسامح والتعاطف والحنو إزاء كل كائن بشري, هي الوجه الأكثر خفاء للشخصية التي ابتكرها إيستي, وهي في نفس الوقت, القناع الأكثر حقيقية للكاتب كوستولاني. إيستي إذن هو بطل قصتنا هذه التي في عنوان مجنون السرقة وهو نفس عنوان المجموعة القصصية التي ترجمها صديقنا الشاعر محمد سيف وأصدرتها دار الياس العصرية بالقاهرة. يحدثنا الراوي القصة عن إيستي باعتباره كان موهوبا, واسع الاطلاع يجيد عدة لغات, قضي إلا أنه كان يعاني من عيب قاتل, حيث يسرق كل ما يقع تحت يده, لايهم ما يكون, إنها متعته, ورغم المحاولات المضنية التي قام بها اصدقاؤه, ورغم ان الشرطة كانت تقوده مقيدا, يتعرض لمواقف مهينة عمدا من مجهولين, لم يتمكن من التغلب علي نفسه أبدا. يقول الراوي أن إيستي جاءه يوما عقب خروجه من السجن جائعا مهلهلا رث الثياب, راجيا إياه أن يبحث له عن عمل, والراوي توجه الي ناشر كتب وزكاه عنده, وعهد الناشر اليه بترجمة رواية شعبية تخلو من الأهمية الادبية عنوانها قصر الأمير فاتسيلاف. بعد عدة أيام فوجئ الراوي بهذا الناشر يخبره أن الترجمة التي قام بها إيستي لاتصلح بالمرة وأنه لن يدفع فيها درهما واحدا. الراوي أدهشه الامر, فالترجمة كانت بالغة الجودة, وفي لغة ناصعة, إلا أنه ما أن بدأ مقارنتها بالأصل حتي أدهشه الأمر, فبينما كان النص الأصلي يتحدث عن أن القصر العتيق يتألق بجميع نوافذه الست والثلاثين.. وأن قاعة الرقص تتلألأ بنجفات أربع تفيض بالنور, كانت الترجمة تتحدث عن اثنتي عشرة نافذة لاغير, ونجفتين فقط, وعندما أخرج الكونت حافظته التي تحوي ألفا وخمسمائة جنيه ترجمها صاحبنا أنها كانت تحوي مائة وخمسين فقط. هكذا جري الأمر بالنسبة لعقود اللؤلؤ والألماس والخواتم المرصعة بالزمرد, لقد قام صاحبنا, إذ يترجم, بسرقتها من قلب الصفحات. ولكن, أين كان يضع هذه الثروة المسروقة يتساءل الراوي, ويجيب إن: إيستي كان يسرقها ويختزنها هناك في إمبراطورية الخيال. المزيد من مقالات إبراهيم اصلان