علي الرغم أن تركيا الداخل ليست في حاجة إلي الاقتداء برياح الربيع العربي, إلا أن كثيرين في الخارج مما يعنيهم الشأن التركي تمنوا صادقين أن يستلهم جزء من ترابها وما عليه من المواطنين نسمات الانطلاقات غير المتوقعة في عدد من الاقطار العربية. وللانصاف لم تخف شرائح عريضة من المثقفين الاتراك علي إختلاف مشاربها الفكرية, أمنياتها في ان تزحف قيم الاحتجاج السلمي كما ظهرت في كل من تونس ومصر علي مدن جنوب شرق البلاد المتخمة بهموم التهميش وبهواجس الانفصال, وهكذا بدت الآمال واسعة في إستعادة الثقة المفقودة لسنوات طويلة بين المكونات الاثنية للوطن خصوصا الأثنية الكردية. كان يفترض أذن أن تلهب الثوارت العربية أفئدة الشباب المؤمن بكرديته كي يخرجون إلي الساحات والمياديين الواسعة في: أضنة وديار بكر وتونجلي وبطمان وسيرت ومردين وشانلي اوروفا وشيرناق وسيرت مسقط رأس أمينة هانم حرم رئيس الحكومة أردوغان, يرفعون الشعارات ويصرخون منادين بمطالبهم المشروعة: الهوية والمساواة دون تمييز أو إقصاء, مستغلين سقف الحرية الواسع نسبيا, وهو بالمناسبة لا يقارن بما يعيشه أقران لهم سواء في سوريا أو إيران المتاخمتان لأراضيهم, حتي ذويهم في اربيل الكردستانية بشمال العراق لا ينعمون بما ينعمون هم به, بيد أنهم يستطيعون ومازالو مخاطبة وسائل الإعلام بجميع أنواعها وأجناسها أجنبية أم محلية بالنقد والتجريح أحيانا, فلا قيد ولا رقيب, الكل يتحدث علي الهواء مباشرة في جميع القضايا منتقدا ومتوعدا فقط عليه ألا يقرن وعيده بعنف السلاح. أيضا كان يمكنهم أن يلعبو علي وتر تعاطف أهل الفرنجة في القارة الاوروبية العجوز نحو حقوقهم الثقافية. والحق بدأ هناك تفاؤل مبعثه وهو وجود أرضية ما سبق ودشنها العدالة الحاكم والتي أخذت عنوانا عريضا ألا وهو مشروع الانفتاح علي المعضلة الكردية, صحيح ربما كانت هشة إلا أن البناء فوقها لم يكن مستحيلا ومازال الأمر ممكنا وليس مستعصيا. وراحت أقلام توحي بقرب الانفراج, فاوضاع مئات الآلاف الأكراد في وريثة الأمبرطورية العثمانية, خاصة مع نجاح ثورات الناطقين بلغة الضاد الإستثنائية, لا يمكن أن تعود إلي سابق عهدها حيث اللا سلام واللاحرب. ولكن هيهات, نعم جاءت الارهاصات غير أن ترجمتها كانت دموية, فأصحاب القضية عادوا إلي لغة الكمائن وإصطياد رجال الشرطة ومعهم جنود الدرك التابعين للجيش, ونسوا بل تناسو أن يحذوا حذو الثورتين التونسية والمصرية بوجه خاص, وتمر الاسابيع ولا يمر يوم تقريبا دون سقوط ضحايا, ومعها تتشح قري الشهداء بالحزن والجنازات, وأمام الغضب العارم خرجت الحكومة صاحبة مشروع السلام لتطرح الانغلاق والعودة إلي الحرب علي الإرهاب, ويالها من عبثية تدمي القلوب فالجميع أكتشف أنهم مازالوا عند نفس النقطة لم يبرحونها أو بالاحري عادوا اليها وكأن الزمن تجمد دون تغير أو تغيير, اللهم زيادة في عدد من قضي نحبهم وهم بالآلاف وهكذا تتواصل المأساة التي بدأت في عهد تورجوت اوزال مرورا بسليمان ديميريل وتانسو تشيللر ومسعود يلماظ ونجم الدين أربكان وبولنت إجيفيت وأخيرا رجب طيب اردوغان, وهو ما يعني ان العمليات العسكرية الدائرة الآن لن توقف نزيف الأزمة وحرب العصابات التي يشنها أنفصاليوا الجبال لن تؤدي بدورها إلي النصر علي غرار الثورة الكوبية في خمسينيات القرن المنصرم بل سيظلوا في نظر العالم ارهابيين أسوة بنظائرهم عناصر الفارك الكولومبيين. أن مكمن مشكلة قادة الاكراد هو أنهم يريدون تحقيق طموحاتهم دفعة واحدة دون تدرج, والأكثر من ذلك إصرارهم غير المفهوم علي أن يكون عبد الله أوجلان زعيم منظمة حزب العمال الكردستاني محور اي تفاوض مباشر مع الحكومة أي أن العدالة الحاكم عليه أن يمحي بجرة قلم ما تم تلقينه لشعبه علي مدار أثنتي عشرة سنة بأن اوجلان مسئول عن قتل الالاف من ابنائهم, ثم كيف يواجه الغرب الأوروبي والأمريكي معا واللذان وصما الزعيم الانفصالي بالأرهابي ؟ ومن ثم فالمطلوب لا يفوق قدرة الحكومة الحالية فحسب وإنما اي حكومة سابقة أو تالية لأنه ببساطة شرط تعجيزي يدخل تحت بند المستحيل. وفي الوقت الذي شنت فيه فيلز كوتش نائبة رئيس حزب السلام والديمقراطية الكردي هجوما كاسحا ضد اردوغان كونه أختار الحرب ووئد كل الحلول وجعل تركيا دولة بوليسية إلا أنها لم تقدم تفسيرا لتلك السادية التي يتمتع بها مقاتلوا جبال قنديل بشمال العراق في نصب الشراك وزرع الالغام والذي يذهب ضحيتها المدنيين قبل العسكريين. في المقابل, المشهد الحكومي أيضا يتحمل المسئولية عن التردي الحاصل الآن لأكثر من سبب في مقدمتها إفراطه في وعود الانفتاح علي الازمة الكردية وإيحائه المستمر وكأنه يحمل العصا السحرية التي ستضع نهاية للصراع ولم يستفد من تراث سابقيه الذين ارادوا أن يحققوا المعجزة ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام نفق لا ينتهي إلا بالمواجهة المسلحة. فكل المحاولات كان هناك قاسم مشترك فيما بينها ألا وهو القفز علي الحقائق والارتكان إلي العواطف دون إتخاذ خطوات جادة وحقيقية لتهيئة المجتمع التركي إجمالا لإستيعاب هويات مغايرة عن طيب خاطر, توطئة لإصدار تشريعات قانونية تزيل عوار السنين وتبني لاترمم بنية دستورية متحضرة تجد إستجابة من واقع شريطة أن يكون قد تخلص بالفعل وإلي الأبد من تحفزه وتنمره ضد الآخر أيا كان هذا الآخر,وبالتوازي قبول تحول تتدريجي ينقل لغة الحكي الشفاهية التي تتغلغل في هذا الجزء الجغرافي المهم من هضبة الاناضول والذي لا تخطئه أذن, إلي مفردات هجائية مكتوبة ومتداولة, يتعلمها الاطفال ثم النشء إلي ان تتجذر لتشكل أركان ومناحي الحياة للأكراد يشملهم في الوقت ذاته فضاء تركيا الأوسع والأرحب والمتسامح. فمتي أذن ستكون البداية ومن الذي سيقوم بها ؟