هشام مطر, كاتب وروائي ليبي مرموق, تحتفي الدوائر الأدبية والثقافية بإبداعه, وقد ذاع صيته في بريطانيا عقب نشره روايتين باللغة الإنجليزية هما: في بلد الرجال, وتشريح الاختفاء, وجري ترشيح الرواية الأولي للفوز بجائزة مان بوكر الأدبية الرفيعة عام.2006 وتدور أحداثها في ليبيا, ويروي وقائعها فتي اعتقلت سلطات العقيد معمر القذافي والده, وزجت به في غيابات السجن, ولا يبتعد موضوع الرواية الثانية عن أجواء الرواية الأولي, فهي تتناول اختفاء معارض سياسي في ظروف غامضة. ويسرد هشام مطر في هاتين الروايتين أطيافا من المأساة السياسية والإنسانية التي ألمت بوالده جاب الله مطر, بسبب مناهضته لنظام القذافي, الذي تسلط علي ليبيا وقمع شعبها منذ قيامه بانقلاب عسكري عام.1969 وكان والد هشام ضابطا في الجيش الليبي, واستمر في أعباء وظيفة كلف بها في الأممالمتحدة بنيويورك لمدة أربع سنوات بعد انقلاب القذافي, غير أنه استقال ساخطا وغاضبا عام1973, احتجاجا علي ممارسات القذافي ونظامه. ولأنه جرؤ علي تحدي القذافي, فقد أدرجه نظام العقيد في القائمة السوداء, باعتباره من أعداء الثورة, وتحت وطأة ملاحقة عملاء القذافي, اضطر جاب الله مطر للفرار مع أفراد عائلته إلي القاهرة, وصار عضوا بارزا في حركة المعارضة وجبهة إنقاذ ليبيا. غير أن عملاء القذافي تمكنوا من اختطافه واعتقاله, وظل حتي عام1995 يسرب رسائل من سجنه إلي أفراد أسرته, لكن رسائله توقفت تماما منذ ذاك العام, ومن ثم راودت الهواجس ابنه هشام من احتمال تعرض والده لمخاطر جمة ربما أودت بحياته في سجون القذافي. المذبحة الوحشية ومما أجج قلق هشام ومخاوفه علي مصير والده, إدراكه أن خصوم القذافي السياسيين يلقون حتفهم في أغلب الأحيان, وليس أدل علي ذلك من المذبحة الجماعية الهمجية التي ارتكبتها سلطات القذافي عام1996 في سجن أبي سليم سيئ السمعة.. فقد قتلوا أكثر من1200 مسجون رميا بالرصاص, لأنهم طالبوا بتحسين أوضاعهم داخل السجن, وحقهم في محاكمات عادلة, ويؤكد شهود عيان أن وقائع المذبحة الوحشية استمرت نحو ساعتين. هذه المذبحة المروعة استدعتها ذاكرة الثوار الليبيين ضد نظام القذافي, وكانت من الأسباب المباشرة لإطلاق شرارة ثورة17فبراير, ذلك أن السلطات الليبية اعتقلت يوم51 فبراير المحامي فتحي تربل بسبب اضطلاعه بمهمة تحريك الدعوي القضائية ضد الذين ارتكبوا المذبحة. وعندما ذاع نبأ اعتقال المحامي, استشاطت عائلات الضحايا غضبا, وخرجت إلي الشوارع في مظاهرة سلمية للمطالبة بالإفراج عنه, وتصدت لها قوات القذافي بعنف وقسوة بالغة. واتسع نطاق المظاهرة.. ولم يعد المتظاهرون الليبيون يطالبون بمجرد الإفراج علي المحامي فتحي تربل, وإنما تجاسروا وطالبوا بالحرية والعدل, ومن المؤكد أن أصداء نجاح الثورتين التونسية والمصرية قد شجع المتظاهرين, وصاروا ثوارا يطالبون بإسقاط نظام العقيد القذافي. ويقول هشام مطر في حوار صحفي أجراه أخيرا إن موضوع روايته تشريح الاختفاء ظل يطارده زمنا طويلا.. ماذا يحدث عندما تفقد شخصا ما في ظروف جد غامضة.. في هذه الحالة أنك لا تعرف مصيره.. هل لايزال حيا أم أنه مات؟!. والمثير حقا أن الراوي الشاب في الرواية يشعر بالغضب أحيانا من والده, لأنه آثر اختيار الطريق الصعب الحافل بالمخاطر, مما أفضي إلي اعتقاله ثم اختفائه. ويقول هشام: نعم كنت أتمني ألا يسلك والدي هذا الطريق الوعر المفضي إلي الموت في سجون القذافي.. لكنه سرعان ما يعتذر عن هذه الفكرة الأنانية, ويقول: لقد مهد والدي وأمثاله من الرجال الطريق نحو الثورة الراهنة ضد القذافي ونظامه. ثورة17 فبراير وما إن اندلعت ثورة17 فبراير حتي تحولت شقة هشام في لندن, حيث يعيش في المنفي منذ فترة, إلي مركز إعلامي لتزويد الصحفيين الأجانب بمعلومات عن الثورة والثوار, ذلك أن القذافي منع الصحفيين والمراسلين الأجانب من دخول ليبيا لتغطية أحداث الثورة, ناهيك عن تحرش أذنابه بالصحفيين والمراسلين الذين كانوا موجودين داخل ليبيا. ويقول هشام إنه سوف يعود إلي ليبيا بعد سقوط نظام القذافي.. فقد غادرها منذ كان في الثامنة من عمره, ويؤكد أنه سوف يبحث عن والده. ما لم يذكره هشام في حواره الصحفي أن القذافي أطلق قواته وترسانة أسلحته لقهر الثوار, وربما إبادتهم إن أمكن.. ويتذكر الجميع أن القذافي ظل في الخفاء لمدة أسبوع منذ اشتعال الثورة ومعاركها الدامية مع قواته, ثم خرج من كهف القرون الوسطي يوم22 فبراير, وقال خطبته التي هدد فيها الثوار وتوعدهم بالقتل مثلما تقتل الجرذان!!.. وقال إنه سيحرر ليبيا من شعبها(!) شبرا شبرا, وزنقة زنقة!! وصار خطاب القذافي نموذجا فاضحا وكاشفا لزعيم غليظ القلب ومغيب العقل, خرج مدججا بالكراهية من كهف القرون الوسطي في مهمة لقتل شعبه حتي يبقي ملك ملوك إفريقيا علي العرش.. عرش البترول ودم الشهداء. لكن زنقة القذافي مسدودة.. وسقوطه محتوم. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي