ما رأيته بعيني في الساعات القليلة الماضية, قد يكون قليلا في حجمه مقارنة بعمري, ولكن تأثيره هو الأقوي علي مدي حياتي كلها. وقد تربي جيلي وتشبع بقيم و ثقافات, ترسخت علي مدي عقود مضت, كان مفادها أن الزمن لايتحرك. وانه ليس في الإمكان أفضل مما كان, حالة من السكون سادت جموع كثيرة من فئات الشعب المصري, وكان المشهد الرئيس إنشغال هذه الفئات بشؤنهم اليومية من مأكل ومشرب وملبس و تعليم الأولاد. ظل هذ المشهد مسيطرا علي الحالة الإجتماعية فترة طويلة, يقابله مشهدا آخر لبعض الرموز التي تضخمت ماديا ومعنويا بعد أن إكتسبت قدرا من المشروعية الواقعية وهو ما أعطاها نوعا من الحماية جعلتها تتحرك بيسر وسهولة غير عابئة بمصالح الأخرين. أكثر ما لفت الأنظار في يوم الغضب وما تلاه من أحداث هو خروج الكتلة الأعظم عن صمتها, المعروفة بالطبقة المتوسطة, و التي كانت تراقب ثم تقترب وتبتعد عن الأحداث علي إستحياء. الأن إختلطت المشاهد و تمازجت الأحداث ليطفو علي السطح مشهدا غير مسبوق في تاريخ الحياة السياسية المصرية علي إطلاقها, بعد تحرك الشباب المصري الذي أتهم كثيرا بالسلبية, ليعبر عن رأيه بوضوح وصراحة ملوحا بطلباته, شباب لم يكن يعرف معني التظاهر, وجوه جديدة ترغب في مستقبل أفضل يدفعها الأمل لم يدر بخلدهم أن يتخللهم مجموعة من المستغلين جل تركيزهم السلب و النهب والسطوعلي الممتلكات العامة والخاصة, بعد أن انسحبت الشرطة وإختفت تماما وسادت الفوضي قطاعات عديدة من المجتمع المصري, وتبدأ القوات المسلحة النزول الي الشارع, ليقوموا بالدور الأمني, ويلتحم الجيش بالشعب في صورة رائعة تبرز قيمته ووقوفها مع الشرعية, وتصبح هذه الأيام فارقة في حياة المصريين. ما شهده الناس من فوضي السلب والنهب العشوائي او المنظم, جعلهم يدركون كم الخير الذي في نفوسهم, تكاتفت الجموع الكبيرة من الشعب المصري يدا بيد لحماية أعراضهم وممتلكاتهم, يقفون بالشارع ليلا و نهارا يدافعون عن بلدهم و أمنهم ضد اللصوص والغوغاء. شباب في عمر الزهور مفعمين بالحيوية والأمل يؤمنون ممتلكتهم الخاصة والعامة بحس أمني ووطني رائع, يقفون بأجسادهم ضد البلطجية ببسالة وشجاعة مصدرها الشعور بالمسئولية تجاه أسرهم واهلهم وجيرانهم واصدقائهم. في هذا السياق يمكن التوقف عند عدد من الملاحظات الهامة. أولها, أن للشباب حقوق منها التعبير عن رأيه و هو حق مشروع يقابله الإلتزام بأن يتم ذلك في إطار الحرص علي النظام والقانون والممتلكات العامة والخاصة, وهو ما حدث في البداية ليتدخل الغوغاء ويشوهوا ما حدث. ثانيها, ان صوت الشباب أصبح مسموعا و وصلت رسالتهم بوضوح, والمهم الأن أن نضع مصلحة مصر نصب أعيينا, ونحن لانريد أن نعود خطوات الي الوراء, في الوقت الذي يمكن لنا ان نتخذ من هذه الأيام بداية نجعلها أساسا لمستقبل جديد فيه تطلعاتنا للغد الذي يحلم به الشباب, فكل يوم تستمر فيه التوترات نعود فيه ايام وايام الي الوراء. ثالثها, إستحالة التفرقة بين مسلم ومسيحي, دور العبادة من كنائس ومساجد لم يلق عليها حجر. حالة من التلاحم والتوحد بين المواطنين كنا في حاجة إليها خلال الأيام السابقة, تظهر المعدن الأصيل للمصريين وقت الشدة والأزمات, وهذا هو أفضل رد علي المضلليين والمشككين من خلال وجود نسيج مجتمعي واحد فقط يظهر ان هناك مصريين يعبدون اله واحد ولكن كل بطريقته أنهم ينتمون لبلد واحد هو مصر, ومهما حاول أعداء الوطن التفرقة بين مواطنيه فلن يستطيعوا. رابعها, ما شهدته من معاملة الشرطة في بداية التظاهر يختلف مع ما شهدته من معاملة القوات المسلحة مع المتظاهرين في الأمس, الفرق واضح وجلي مما يدعونا للتساؤل لماذا هذا الإختلاف ؟ وبناء عليه لابد أن يعاد النظر في معني المفهوم الأمني من يحمي من و ضد من ؟ لابد من إعادة وبناء الثقة مرة أخري بين الشرطة والمواطن علي أساس من الود والإحترام المتبادل وان يعرف الطرفان أنهم في مركب واحدة وهو جهد يحتاج الي خبرة وحنكة سياسية لنصل الي السؤال الأهم لماذا أختفت قوات الشرطة ومتي تعود لأداء دورها المنشود؟ لقد جاء إختيار الرئيس مبارك للوزير عمر سليمان نائبا له وهو الرجل المشهود له بالكفاءة والنزاهة والمقبول شعبيا, إضافة الي الفريق أحمد شفيق رئيسا للحكومة صاحب السيرة الذاتية الرائعة والتاريخ الناصع, لتبدأ مرحلة جديدة من الحياة السياسية في مصر, وليضع علي عاتق الأثنين مسئولية كبيرة في تلك المرحلة التي يتطلع فيها المواطنين الي مزيد من الحرية والديمقراطية, والعدالة الإجتماعية, وتوفير فرص العمل بعد أن زادت نسبة البطالة بشكل كبير, إضافة الي وضع حد أدني عادل للأجور, والقضاء علي الفساد والمحسوبيات, وضبط الأسعار, وتخفيض معدل التضخم. علينا الأن أن نعي أن مصر تمر بأخطر مراحلها السياسية علي مدي تاريخها, تحتاج فيها أن نقف يدا واحدة واضعين بلدنا نصب أعيينا, فهي بلدنا جميعا أمنها أمننا, سلامها سلامنا, وعزتها من عزتنا, وكرامتها بالطبع من كرامتنا, غدها هو مستقبلنا, قدرها بيدنا, ومصر لنا جميعا, ولن تكون لغيرنا. المزيد من مقالات عماد رحيم