مثيرة للتأمل والإلهام هي تجرية الحماية الشعبية للشوارع والاحياء في كثير من أنحاء مصر منذ السبت الماضي, تدفع هذه التجربة إلي التأمل في مغزاها وآثارها لانها من صنع شباب يتولون حراسة مناطق وبيوتهم ويذودون عن اهلهم ويحمون الممتلكات الخاصة والعامة. إلي ان تعود الاوضاع إلي طبيعتها, كما انها تثير الإلهام لانها تحمل في طياتها تحولا نوعيا في سلوك شباب لم يكن معنيا بأي نوع من العمل العام, في الوقت الذي تشتد الحاجة إلي دورهم في تنظيم المجتمع المحلي, كما في المشاركة في إدارة الشأن العام. يبدو أن شباب مصر, الذين يشاركون في حماية وطنهم, جزء من حالة جديدة تشهدها البلاد تدفع إلي الأمل وتحث علي التفاؤل, ألم يكن الشباب هم الذين تصدوا لبعض الاعتداءات علي المنشآت العامة, وفي مقدمتها المتحف المصري, ويفخر العاملون في الأهرامان واحدا من شبابهم استشهد وهو يطفئ حريقا في محكمة الجلاء, لم يطلب احد من الزميل محمد عبد الوهاب شلتوت التطوع لانقاذ مبني شديد الحيوية من الحريق, ولكنها الروح التي حلت في شباب مصر,, وظهرت في المظاهرات السلمية الرائعة التي حاول البعض القفز عليها, كما في المشاركة واسعة النطاق في لجان حراسة شعبية تقدم نموذجا جديدا للعمل المحلي. فهذا العمل هو المدرسة الابتدائية التي تؤهل للنشاط السياسي أو الاجتماعي العام الذي لايرتبط بمنطقة معينة. وإذا اضفنا إلي ذلك ان انصراف الشباب عن العمل لخدمة الشارع والحي كان أحد أهم اسباب شيوع الفساد في المحليات, تبدو واضحة أهمية تجربة دورهم في حماية مناطقهم من اعمال السلب والنهب التي اجتاحت البلاد خلال الأيام الماضية. فالمفترض ان تؤسس هذه التجربة لدور جديد للشباب ينهض بالعمل المحلي وينظمه من الفساد الذي ينجز فيه ويزيد فاعليته في حل مشاكل المجتمع ويعيد إلي الناس الثقة الغائبة فيه. وهذه ضرورة لاغني عنها ولابديل لها في عملية الاصلاح, لأن المحليات هي قاعدة هذا الإصلاح الذي يظل فوقيا إذا لم يشملها, وفي امكان الشباب, الذي ازدادت لديه الثقة في النفس ان يقوم بدور يتجاوز الاطر المحلية الرسمية إلي تنظيم الشارع الذي عمته الفوضي والعشوائية حتي في أكثر الأحياء رقيا. ولذلك لايصح ان ينتهي دور الشباب في مناطقهم باستعادة الأمن والاستقرار فيها, بل ينبغي ان تكون هذه هي بدايته, وعندئذ يمكن الحديث عن ولادة جديدة للمجتمع المصري علي كل صعيد لانه مجتمع شاب, بل فتي, من حيث تكوينه العمري, وهذا النوع من المجتمعات يرتبط تقدمه ونهوضه بدور شبابه. وقد اثبت شبابنا انهم قادرون علي تغيير وجه الحياة علي ارض مصر بما قاموا به من دور في مواجهة البلطجة والنهب ومساعدة القوات المسلحة لاداء مهمة امنية استثنائية خارج نطاق دورها في الدفاع عن الوطن وتأمين حدوده. فكان هذا الدور فخرا لمصر والمصريين, ودليلا جديدا علي ان شعبنا يبلغ اعلي مبلغ في الرقي عندما يواجه الشدائد. ولذلك يستطع شباب مصر ان يواصل هذه الدور بطريقة جديدة في ظروف صعبة بعد ذلك عبر المشاركة الفاعلة في إدارة الشئون المحلية. وفي هذه الحالة, يرجح ان تتغير النظرة السلبية إلي التضخم السكاني حين يصبح الشباب قوة إيجابية فاعلة في بناء مستقبل المجتمع الذي هو مستقبلهم باعتبارهم الاغلبية فيه. فالمجتمع المصري هو احد أكثر مجتمعات العالم شبابا في الوقت الراهن, فوفقا للتعداد العام الأخير الذي اجري عام2006, بلغ عدد من كانوا في المرحلة العمرية من15 إلي30 عاما, وصاروا الآن بين20 و35 عاما نحو عشرين مليونا, ويضاف إليهم نحو عشرة ملايين بين15 و20 عاما, وهذا فضلا عن نحو27 مليونا تحت سن الخامسة عشرة. وهذه قاعدة بشرية هائلة تتضمن مخزونا ينبئ ان أعداد الشباب في مجتمعنا آخذة في الازدياد بشكل مستمر, فالتكوين العمري لمجتمعنا يحمل في طياته فرصا واعدة حين يكون الشباب إيجابيا ومشاركا, وعندما تنجح السياسات العامة في توظيف قدراته واستثمار إمكاناته. ولذلك يتعين ان يكون هذا هو احد أهم محاور التغيير المنتظر الذي يطالب به الشباب في السياسة الاجتماعية, واحد اهداف الاصلاح الضروري أيضا في النظام السياسي. ويمكن ان تكون النتائج المترتبة علي ذلك أكبر حين يقترن هذا الاصلاح وذلك التغيير بمراجعة جادة لنظام التعليم بمنأي عن التجريب العقيم الذي غرقنا فيه طويلا, وفي اتجاه اطلاق طاقات هذا المخزون الشبابي وتحريره من اعباء الطريقة العميقة في التدريس التي تطمس الموهبة مبكرا بدلا من ان تظهرها وتصقلها, وتعتمد علي التلقين بدلا من الحوار, وتنمي الذاكرة علي حساب العقل. لقد كان هزال التعليم في بلادنا, ومازال, في مقدمة العوامل التي أسهمت في تحويل نعمة التكوين الشبابي للمجتمع إلي نقمة, وجعلت الشباب عبئا بدلا من ان يكون رصيدا, مصدر قلق وخوف بدلا من ان يكون دافعا للتفاؤل. وإذا اقترن ذلك بنظرة جديدة أرحب وأعمق إلي النشاط السياسي في الجامعات, في اطار تنشئة الطلاب علي حب العمل العام والمشاركة فيه والإسهام في إدارة شئونه, ستكون هذه بداية مرحلة جديدة بالنسبة الي الشباب والمجتمع في آن معا. وبالرغم من ان مشاكل احزابنا السياسية وقلة فاعليتها وكثرة صراعاتها الداخلية مسئولة عن ضألة اعداد الشباب فيها, يظل لنظام التعليم ومنع السياسة في الجامعات نصيب معتبر في ظاهرة انصراف الاجيال الجديدة عن العمل الحزبي في اطار النظام السياسي. وربما يكون تعديل اللائحة الطلابية لتصبح أكثر ديمقراطية خطوة اساسية في هذا الاتجاه إلي تفعيل دور الشباب الذي اظهر دوره في الأيام الماضية مايبعث علي الامل في المستقبل. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد